المهندس عامر البشير يكتب : صحة الإنسان .. كرامة وطن

في ذكرى مئوية ميلاده، نسلّط الضوء على منهج عمل الدكتور محمد البشير إبّان تولّيه وزارة الصحة (1971–1977): تأسيس البنية الصحية الحديثة، وبناء الإنسان عبر نهضة صحية شاملة، من وجهة نظر بحثية، لا من وحي عاطفة الابن.
في سبعينيات القرن الماضي، وبينما كان الأردن يقف على مفترق طرق تاريخي وسط تحولات إقليمية ومحلية عميقة، كان التحدي الأكبر أن تبقى الدولة حضنًا للإنسان، لا جدرانًا صمّاء، ولا خططًا باردة، في تلك اللحظة الفاصلة، برزت شخصيات رأت في الوظيفة العامة أمانةً مقدسة، لا وجاهة ولا سلطة، وسبيلاً لبناء الإنسان الأردني، كان من بين هؤلاء المخلصين الدكتور محمد البشير، من الذين حملوا الحلم الوطني على الأكتاف، واختار أن يبدأ من حيث تبدأ الحياة: من صحة الإنسان.
من الصحة إلى السيادة الوطنية
تسلّم الدكتور محمد البشير حقيبة وزارة الصحة في أربع حكومات شكّلها ثلاثة رؤساء وزراء — بدءًا بحكومة وصفي التل عام 1971، مرورًا بحكومة أحمد اللوزي عام 1972، ثم حكومتي مضر بدران حتى عام 1977.
كان يؤمن أن بناء الأوطان لا يتم بالضجيج، بل بنبض الرحمة في ضمير ممرّضٍ يسهر على جرح نازف، ودعاء أمٍ تتوسّل شفاء ابنها على عتبات مستشفى، وحقنة لقاحٍ أو عقارٍ يدفع البلاء عن جسدٍ واهنٍ يرجو الحياة.
لم تكن الصحة عند البشير موضوعًا عابرًا يُلقيه الزمن على هامش حاجاته، بل كانت صلاةً تُرفع في محراب الكرامة الوطنية، وسُبحةً تُعدّ حباتها عند حقن أرواح أبناء الوطن، فالدفاع عنهم كان عبادة، وصون كرامتهم فرضًا لا تهاون فيه، لقد آمن بأن المواطن المحروم من حقّه في العلاج كونه مواطنٌ مهدّدٌ في إنسانيته، وفي صلته بوطنه.
مشروعٌ صامت... عميق الجذور
دخل الدكتور البشير وزارة الصحة بمشروع لم تحفّه الضوضاء، بل حمل عمق الينابيع الجوفية، صامتًا في مظهره، عميقًا في أثره. كانت رؤيته أن تتحول الوزارة من إدارة خدمات محدودة إلى مؤسسة وطنية لحماية حياة الأردنيين. وقد تمحور مشروعه حول أربعة محاور رئيسية:
1)الصحة مشروع عدالة لا خدمات
آمن البشير أن العدالة لا يمكن أن تزدهر في وطنٍ تُرسم فيه خرائط الألم بالجغرافيا، لذا، قاد مشروعًا للتوسيع بالمستشفيات والمراكز الصحية في جميع المحافظات، بما فيها القرى والألوية المنسية، إيمانًا بأن رعاية الأمومة والطفولة في الكورة أو معان لا تقل أهمية عن نظيرتها في عمّان، وأن سرعة الاستجابة للطوارئ حقّ لكل مواطن، لا مكرمة، بل جوهر العدالة.
2)الوعي الصحي أولوية توازي العلاج
في مواجهة الأوبئة وسوء التغذية وتلوث المياه، جعل البشير الوقاية أولوية، مطلقًا حملات توعية وتطعيم وطنية، خاصة في المناطق الحدودية والمخيمات، وسّع مفهوم الطب الوقائي، مؤمنًا بأن مقاومة المرض تبدأ قبل دخول المستشفى.
3)الاستثمار في الإنسان قبل البنيان
اهتمّ البشير، إلى جانب اهتمامه بالبنية التحتية من مستشفيات ومراكز طبية، بالكوادر البشرية، شجّع الأطباء الشباب على التخصص في الخارج، واستقدم خبرات دولية لتدريب الكوادر، ودعا الكفاءات الأردنية بالخارج للعودة لخدمة وطنهم، كما دعم إدماج الفتيات الأردنيات في مهنة التمريض، وساهم في تأسيس بيئة التعليم الطبي عبر كلية الطب في الجامعة الأردنية (1970) والمعاهد المساندة (1973)، رافعًا شعاره: "لا تنمية شاملة دون تنمية الإنسان".
4)التشريع والمؤسسات.. أساس الاستدامة
آمن البشير أن الإصلاح لا يكتمل دون تثبيته في الجغرافيا والقانون، شارك في تحديث قانون الصحة العامة (1971)، وتعزيز نقابة الممرضين والممرضات (1972)، وأطلق المجلس الصحي العالي (1977)، مؤكدًا أن التشريع هو حامي المهنة من العشوائية والاستغلال، وضامنٌ لعدالة بيئة العمل.
قاتل الكوليرا بروح الجندي
حين اجتاحت الكوليرا الأردن عام 1976، كان البشير في الصفوف الأولى، يقاتل المرض كما يقاتل الأب دفاعًا عن أبنائه، لم يكتفِ بالإشراف عن بُعد، بل كان أول الواصلين إلى مواقع الإصابات، يعمل يومًا بيوم، بلا كلل أو ملل.
كأن الدفاع عن صحة الأردنيين بالنسبة له دفاعًا عن سلامة الوطن ذاته، تعامل مع الأزمات الصحية لا كمجرّد تحديات فنية، بل كمعارك وجودية تستدعي استنفار الدولة بكامل طاقتها، إذ كان يعتبر أن الصحة العامة شأن سيادي.
إنجازات طبية كبرى في سبعينيات القرن الماضي
شهدت السبعينات نهضة صحية أردنية غير مسبوقة، حين تمكّن الأردن من القضاء على وباء الملاريا ومنع توطنه، في إنجاز عالمي جسّد رؤية تعتبر الإنسان جوهر التنمية، والوقاية مفتاح المستقبل.
وفي ذات المسار، حقق القطاع الصحي قفزات نوعية عبر التكامل بين وزارة الصحة والخدمات الطبية الملكية في مجال الجراحة، حيث أُجريت أولى عمليات زراعة الكلى عام 1972، وتبعتها انطلاقة جراحة المناظير عام 1973، ما شكّل تحولًا وطنيًا في الرعاية الطبية وركيزةً في مسيرة النهضة الشاملة.
رجل الدولة الصامت
عرف عن الدكتور محمد البشير قلّة الكلام وانصهاره في بوتقة العمل، مثابرٌ دائم النشاط، اختاره القدر وهو في قمّة عطائه، وفي عزّ شبابه، ليبقى اسمه محفورًا في سجلّ التضحيات الكبيرة.
هو من أولئك الذين لم يحملوا المناصب إلا كما يحمل العابد أمانته، كان يؤمن أن إنشاء المباني واستيراد الأجهزة لا يصنعان نهضة، بل النهضة تولد حين يُبنى الإنسان المؤمن بواجبه، المتزين بروح المواطنة والانتماء والعمل المنتج.
بإيمانٍ عميق وحبٍّ لا ينضب، مضى فارسًا في خدمة الناس، عابرًا ليل الوطن ونهاره، حاملاً هموم المرضى بين المستشفيات والمراكز الصحية، دون أن تفتّ من عزيمته مشقة أو تعب.
حتى أنه زار مستشفى الطفيلة أربع مرات قبل رحلته الأخيرة اثناء توليّه مسؤولية وزارة الصحة في حكومة مضر بدران الثانية، لا لأن البروتوكول دعاه، بل لأن الوجع كان يستدعيه، والإيمان بقدسية العمل كان يسوق خطاه.
وحين لبّى نداء الواجب الأخير، ارتقى شهيدًا في سبيل خدمة الوطن، برفقة المغفور لها الملكة علياء الحسين، في حادث تحطّم المروحية أثناء العودة من زيارة تفقدية لمستشفى الطفيلة عام 1977.
فكان رحيلهما درسًا خالدًا في معنى أن تحيا للناس وتمضي في سبيلهم.
لم يكن غريباً أن يقف الحسين العظيم، في ذكرى الفقد، بمناسبة مرور أربعين يومًا على استشهادهما، شاهدًا ومنصفًا، محييًا ذكراهما، واصفًا مسيرتهما بحروف من ذهب، وكأنما يقول للأجيال: هكذا يُصنع الإنسان، وهكذا تنهض الأوطان.
وتكريمًا لمسيرته، أُطلق اسمه على أكبر مستشفى حكومي، ليُصبح اسمه "مستشفى البشير" بدلًا من "مستشفى الأشرفية".
الخاتمة: د. محمد البشير... سيرة الأثر العميق
في زمنٍ تسابق فيه كثيرون إلى الأضواء، عمل البشير بصمت الحكماء. لم يسعَ إلى التصفيق ولا إلى جني الأوسمة، بل ترك بصمته محفورة في المؤسسات، وفي صحة أجيالٍ شكّلتها رؤاه وجهوده.
لقد أثمرت السياسات والتشريعات والمؤسسات الطبية التي أرسى قواعدها — من دور نقابة الممرضين والممرضات، إلى المجلس الصحي العالي — انطلاقًا من رؤية وطنية مدروسة، استهدفت ترسيخ أسس العمل المؤسسي، وتنظيم مهن التمريض والقبالة وفق أعلى المعايير المهنية.
وقد شكّلت هذه المبادرات منعطفًا أساسيًا في تطوير الخدمات الصحية، ورسّخت نهجًا إصلاحيًا شاملاً ما يزال قائمًا حتى يومنا هذا، موجّهًا سياسات القطاع نحو مزيد من الكفاءة والجودة والتكامل.
واليوم، ونحن نستعيد هذه السيرة في ذكرى مئوية ميلاده، نكتشف أن في سيرته درسًا لا يزال صالحًا لكل من يطمح أن يخدم وطنه بصمت وصدق.
لندرك أن الإصلاح الحقيقي لا يُبنى إلا حين يحمل المسؤول قلب مواطن، ويعمل بصمتٍ نقيّ، مثلما فعل الدكتور البشير، الذي آمن أن بناء الأوطان لا يتحقق بالشعارات، بل عبر تأهيل الكوادر، وتوفير التدريب، وإنشاء المعاهد والمستشفيات، وترسيخ ضمير المهنة.
وهكذا، بقي اسمه راسخًا في السردية الكبرى لتأسيس الأردن الحديث؛ وطنًا يتّسع بكرامته لكلّ أبنائه.
لقد آمن الدكتور محمد البشير أن المواطن، حين تُحمى صحته وكرامته، يصبح قادرًا على حمل أحلام الأمة.
وفي بناء الإنسان.. رُقيُّ الأوطان، مهما اشتدت العواصف، وتكالبت الظروف.