ربى مسروجي : طوفان الأقصى: استنزاف شامل يهدد وجود دولة الاحتلال
منذ السابع من أكتوبر 2023، تواجه إسرائيل واحدة من أصعب وأطول الأزمات في تاريخها. بدأت بعملية «طوفان الأقصى»، التي كسرت الصورة التقليدية لحروب إسرائيل القائمة على التفوق العسكري والحرب الخاطفة. لم تكن هذه المرة مواجهة قصيرة على أرض العدو، بل تحولت إلى استنزاف طويل الأمد تدور رحاه في عمق أراضي دولة الاحتلال. هذه الأزمة لم تقتصر على الأهداف العسكرية، بل امتدت تأثيراتها إلى كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما شكل تهديدًا وجوديًا لمستقبل الكيان الصهيوني.
انعكست الأزمة على صورة إسرائيل عالميًا، حيث تصاعدت الإدانات الشعبية والدولية ضد عملياتها العسكرية في غزة، خاصة مع اتهامها بارتكاب إبادة جماعية ما زالت قيد النظر أمام محكمة العدل الدولية. كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مؤخرًا مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء ووزير الحرب الإسرائيليين.
داخليًا، تفاقمت الأزمة السياسية مع تصاعد الانتقادات الموجهة إلى الحكومة الإسرائيلية التي فشلت في إدارتها. هذه الانتقادات طالت جميع المستويات، حتى الجيش الإسرائيلي، الذي كان يُعتبر لفترة طويلة «البقرة المقدسة» في المجتمع الإسرائيلي. هذه الأزمة ساهمت في تعميق الانقسام الداخلي وتراجع ثقة الشارع الإسرائيلي في قياداته السياسية والعسكرية.
عسكريًا، عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق أهدافه الاستراتيجية على الرغم من امتلاكه أحدث التقنيات العسكرية الأمريكية. استمرت المقاومة الفلسطينية في غزة بإطلاق الصواريخ والمسيرات الانقضاضية التي ضربت مواقع استراتيجية ومدناً رئيسية مثل تل أبيب وحيفا، مما أظهر ضعف منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والأمريكية. كما فشلت إسرائيل في إحراز تقدم على الجبهة الشمالية، حيث لعبت المقاومة اللبنانية، بقيادة حزب الله، دورًا محوريًا في توسيع ساحة القتال. تسببت الهجمات بالصواريخ في حرق آلاف الدونمات وتهجير أكثر من 143 ألف مستوطن من الشمال، مما أدى إلى شلل الحياة في المستوطنات الحدودية. ولم ينقذ الجيش من هذا الاستنزاف توسيع استدعاء الاحتياطيين تم استدعاء 300 الف جندي احتياط اي ثلثي اجمالي الاحتياطي ، والذي بلغت تكلفته في مراحله الأولى وحدها 2.8 مليار دولار، مما شكل عبئًا هائلًا على الموارد العسكرية والمالية.
التحدي الأكبر الذي تواجهه إسرائيل لم يكن عسكريًا فقط، بل اقتصاديًا أيضًا. وفقًا لتقديرات بنك إسرائيل، بلغت تكلفة الأزمة حتى مايو 2024 حوالي 73 مليار دولار، مع إنفاق يومي يُقدر بـ427 مليون دولار. هذه التكاليف الهائلة أدت إلى إفلاس عشرات الآلاف من الشركات، ويتوقع أن يصل العدد إلى 60 ألف شركة مع استمرار الأزمة. كما ارتفع العجز المالي إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي، مع توقعات بارتفاعه إلى 15%. تكاليف المهجرين من غلاف غزة والشمال عمقت الأزمة الاقتصادية، حيث يكلف كل مهجر بالغ 125 دولارًا يوميًا، و70 دولارًا للطفل.
لم تسلم القطاعات الاقتصادية الرئيسية من الأضرار. قطاع التكنولوجيا، الذي يمثل 20% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، يواجه خطر هجرة الكفاءات إلى الخارج، مما يهدد بفقدان أحد أهم أعمدة الاقتصاد. قطاع السياحة أيضًا تكبد خسائر تُقدر بـ5 مليارات دولار، مع تراجع إشغال الفنادق إلى أقل من 50%، فيما تسبب نقص العمالة الفلسطينية في الزراعة والبناء بتوقف الإنتاجية والاعتماد المتزايد على الاستيراد، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وتفاقم الأزمات المعيشية.
دفعت هذه الخسائر وكالات التصنيف الائتماني إلى خفض تصنيف إسرائيل، مما يزيد من صعوبة الاقتراض لتمويل العجز. البنك الدولي توقع أن ينخفض النمو الاقتصادي إلى 1% فقط، مع احتمالات بانكماش يصل إلى 10% إذا استمرت الأزمة بنفس الوتيرة. هذه المؤشرات تؤكد أن إسرائيل تواجه مرحلة جديدة من عدم الاستقرار المالي والتضخم والركود الاقتصادي.
استراتيجيًا، أصبحت إسرائيل في مواجهة مع حقيقة صادمة: تآكل نظرية الردع التي اعتمدتها لعقود. المقاومة الفلسطينية واللبنانية نجحتا في كشف هشاشة المنظومات العسكرية الإسرائيلية وإنهاء نظريات استراتيجية أساسية قامت عليها الدولة منذ إنشائها. هذا الواقع دفع الاحتلال إلى سياسات دفاعية عشوائية عمقت من عزلته الدولية وزادت من حالة الانقسام الداخلي.
في النهاية، يبدو «طوفان الأقصى» أكثر من مجرد مواجهة عسكرية؛ إنه استنزاف شامل يهدد وجود الاحتلال على كافة المستويات. تزامن الجبهات المتعددة في غزة وجنوب لبنان، إلى جانب تصاعد الدعم الإقليمي للمقاومة، جعل من هذه الأزمة تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، التي تواجه اختبارًا تاريخيًا قد يحدد شكل مستقبلها. استمرار الأزمة دون أفق للحل يضع إسرائيل أمام خيارين: التوجه نحو تسوية سياسية تخفف من استنزافها، أو مواجهة انهيار داخلي شامل يجعل من الحفاظ على استقرارها مهمة شبه مستحيلة. ــ الدستور