م. نضال البيطار : ريادة الأعمال: الواقع والوهم
شهدت ريادة الأعمال خلال العقد الأخير رواجًا واسعًا وانتشارًا غير مسبوق في وسائل الإعلام وقطاع الأعمال، حتى باتت تُعرف بكونها الكلمة السحرية التي تُلخِّص النجاح السريع والثروة الطائلة.
ومع ذلك هناك عدد كبير من المفاهيم الخاطئة أو"الخرافات» التي تُحيط بريادة الأعمال، وتسوِّق صورة وردية قد تكون بعيدة عن الواقع.
من أبرز هذه الخرافات الاعتقاد بأنّ رائد الأعمال يولد رائدًا بالفطرة، وأنّ الملكات الريادية لا يمكن تطويرها أو تعلُّمها، بينما يؤكّد الخبراء، اعتمادًا على دراسات موثّقة، أنّ ريادة الأعمال مهارة يمكن بناؤها بالتعليم والتجربة والتعلّم المستمر، فبدلًا من الاعتماد على الموهبة فقط، يحتاج رائد الأعمال إلى العمل الجاد واستثمار الوقت والجهد لتكوين رؤية واضحة وتعلُّم أساسيات الإدارة والتخطيط والاستراتيجيات السوقية.
كما تنتشر خرافة أخرى مفادها بأنّ نجاح رائد الأعمال يتحقّق بين ليلة وضحاها، وأنّه يكفي امتلاك فكرة عبقرية لحصد الشهرة والمال، غير أنّ الواقع يؤكّد أنّ معظم الشركات الناشئة تمرّ بمراحل طويلة من البحث والتطوير، تتطلّب إدارة مالية حكيمة وفهمًا عميقًا للسوق وصبرًا على التحدّيات والتغييرات المفاجئة، فلا وجود لضمان أكيد للنجاح السريع، وغالبًا ما تكون التجارب الفاشلة هي الجسر الذي يعبر من خلاله روّاد الأعمال إلى النجاحات المستدامة.
وفي سياق مماثل، يغفل البعض عن البعد الابتكاري والمسؤولية الاجتماعية للشركات الناشئة، فيخلطون بين ريادة الأعمال وجمع الأموال السريعة، فالريادة لا تعني مجرد تقديم خدمة أو منتج بغية تحقيق عائد مالي سريع، بل تعني أيضًا الإسهام في حل المشكلات المجتمعية وخلق فرص العمل وتطوير الاقتصاد. وحتى مع تحقيق عوائد جيدة، فإنّ استدامة الشركات الناشئة تعتمد على قدرتها على الابتكار وتبنّي قيم التعاون والمسؤولية الاجتماعية.
وتتصدّر قائمة الخرافات المنتشرة أيضًا فكرة أنّه لا يمكن إطلاق مشروع ناجح إلا برأس مال ضخم، غير أنّ العديد من روّاد الأعمال بدأوا من موارد بسيطة للغاية، معتمدين على حاضنات الأعمال، والبرامج الداعمة، وورش العمل، والتمويل الجماعي. ويتطلّب الأمر بالدرجة الأولى امتلاك خطة عمل متقنة وفريق لديه الكثير من الشغف ورؤية موحدة، علاوة على الجاهزية للتعلّم المستمر واستيعاب الدروس من التجارب السابقة والمرونة في تعديل الاستراتيجيات.
ويضاف إلى ذلك خوفٌ لدى بعض المبتدئين من سرقة أفكارهم، ما يدفعهم للانزواء وعدم طلب المساعدة أو المشورة، بينما الواقع يؤكّد أنّ الفكرة وحدها لا تكفي لضمان النجاح، إذ إنّ التنفيذ الذي ينطوي على التفاصيل والجودة والكفاءة هو العامل الحاسم في تميّز المشروع، فمهما كانت الفكرة شبيهة بفكرة أخرى، فإنّ الأسلوب الذي تُطبَّق به والابتكارات التي ترافقها هي التي تحسم النتيجة النهائية.
ومن المهم أيضًا الإشارة إلى أنّ ريادة الأعمال ليست مسارًا مهنيًا صالحًا للجميع، فليس الكل يمتلك الدافعية أو القدرة على تحمُّل المخاطر العالية ومتطلبات العمل المتواصلة، علاوة على ذلك، يحتاج روّاد الأعمال إلى الاستعانة بموظفين مهرة يشاركون في تحقيق أهداف الشركة، الأمر الذي يعزّز أهمية وجود كوادر متنوعة في السوق تلبي احتياجات الشركات الناشئة.
إنّ بناء شبكة علاقات قوية مع الشركاء والزبائن والمستثمرين والمستشارين عنصر أساسي في نجاح رائد الأعمال، شأنه شأن الانخراط الفعّال في المنظومة الداعمة للابتكار، التي تشمل الجامعات ومراكز الأبحاث وشركات التكنولوجيا والاتصالات الكبيرة، وحاضنات، ومسرعات الأعمال والجهات الحكومية وغيرها.
ختامًا، يجب أن ندرك أنّ ريادة الأعمال ليست مجرد شعار جذاب أو درب مختصر للثراء، بل هي ثقافة متكاملة تؤثر في الاقتصاد والمجتمع على المدى البعيد. ورغم انتشارها الكثيف في السنوات العشر الماضية، فإنّ تفكيك الخرافات وفهم متطلبات الواقع يبقى شرطًا أساسيًا للتقدّم في هذا المجال، فالتعلم المستمر، والعمل الجماعي، والمثابرة، وبناء شبكة من العلاقات بشكل مستمر، والاستفادة من الدعم المؤسسي، عناصر محورية تضمن لرائد الأعمال تحقيق النجاح والاستدامة وسط تنافس عالمي لا يعرف حدودًا.