الأخبار

رمزي الغزوي : انتصار بلا ذاكرة وهزائم لا تنتهي

رمزي الغزوي : انتصار بلا ذاكرة وهزائم لا تنتهي
أخبارنا :  

تمر الذكرى الثمانون للانتصار على ألمانيا النازية والعالم أكثر انقساما من أي وقت مضى. احتفالات تقام، خطب تلقى، دبابات تتهادى في العواصم، والأعلام ترفرف فوق رؤوس أجيال لم تعرف تلك الحرب ومآسيها، لكنها تتغذى على رواياتها. في كل بلد قصة، وفي كل قصة بطل وشرير، وداخل كل سردية قدر كبير من النسيان المتعمد.

لم تعد الحرب العالمية الثانية ماضيا طويت صفحته بل أصبحت مادة سياسية حية، يعاد تشكيلها بما يخدم مصالح الحاضر. البعض يراها صراعا بين الخير والشر. آخرون يرونها صراع قوى وإمبراطوريات. أما الحقيقة، فهي أعمق وأكثر تشظيا من أن تحتويها رواية واحدة.

فأميركا تتحدث عن لحظة دخولها الحرب بعد بيرل هاربر، متجاهلة سنوات من العزلة. روسيا تختزل كل شيء في «الحرب الوطنية العظمى»، لكنها تتجاهل تحالفها الأولي مع هتلر ومجازرها في بولندا وأوكرانيا. أوروبا، التي أنهكها الصراع، تختار في الغالب التركيز على المصالحة، وتتجنب تفكيك الجراح القديمة. والصين، التي دفعت ثمنا فادحا، لا تجد مكانا لذكراها في الوعي الغربي.

لكن أخطر ما في هذا التنوع السردي أنه يبرر العنف المعاصر. إذ تستخدم ذكرى النصر لتبرير الحروب الجديدة، وكأن كل من يدعي مقاومة «الشر» يملك تفويضا أخلاقيا بالدمار. بهذا المنطق، تقصف مدن، وتهجر شعوب، ويعاد إنتاج الكارثة التي من المفترض أن ذكرى النصر وجدت لتحذر منها.

في الحقيقة، لم يكن الانتصار يوما مطلقا. لقد مات أكثر من 85 مليون إنسان، كثير منهم دون أن يعرف أحد أسماءهم. أمهات دفن أبناؤهن في صمت، أسرى لم يعودوا، مدن لم تبن من جديد. ولعل ما يزيد من قسوة هذا الرقم، أن العالم لم يتعلم الدرس كاملا. فقد تكررت الإبادات، وعادت معسكرات الاعتقال بلباس جديد.

في ذكرى الانتصار، لا نحتاج إلى المزيد من الأوسمة ولا إلى الأرقام التي تلمع في نشرات الأخبار. نحتاج مواجهة صريحة مع ذاكرتنا الجماعية، مع أسئلتنا المؤجلة، ومع مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه ماضٍ لم يُدفن بعد. فالقتلى لا يعودون، لكن أكاذيب الأحياء تُبعث من جديد في كل خطاب قومي، في كل دبابة تعبر حدودا بذريعة الخلاص، في كل زعيم يعيد تدوير التاريخ ليصنع مجده الشخصي على أنقاض آخرين.

ربما لم تنتهِ الحرب. ربما لم تبدأ فعلاً عند أول رصاصة، بل عند أول كذبة عن الآخر، أول تبرير للفوقية، أول لحظة صمتنا فيها عن الظلم لأنه لا يخصنا. وربما لا يكون السلام وعدا تضمنه الاتفاقيات، بل نبتة هشة لا تنمو إلا في ظل وعي صادق بالفظائع التي ارتكبناها باسم الحق.

الانتصار لا يصنع الأخلاق. الأخلاق تصنع الانتصار الحقيقي، الانتصار الذي لا يُقاس بعدد العواصم التي سقطت، بل بعدد المبادئ التي صمدت. فهل تعلمنا شيئا حقا؟ أم أننا نعيد عرض المسرحية نفسها، على مسرح مختلف، بممثلين جدد، لكن بجمهور لا يزال يصفق للنهاية الخاطئة؟ ــ الدستور

مواضيع قد تهمك