الأخبار

م. زيد خالد المعايطة : الخدمات الحكومية الإلكترونية .. الاستجابة السلوكية وراء تباطؤ الاستخدام

م. زيد خالد المعايطة : الخدمات الحكومية الإلكترونية .. الاستجابة السلوكية وراء تباطؤ الاستخدام
أخبارنا :  

حقق الأردن تقدمًا ملموسًا في رقمنة الخدمات الحكومية، إذ أصبحت مع بداية عام 2025 أكثر من 1567 خدمة حكومية متاحة عبر الإنترنت، أي ما يقارب 65 بالمئة من إجمالي الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنيين، وذلك ضمن خطة وضعتها وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة تهدف الى رفع هذه النسبة إلى 80 بالمئة بنهاية العام الحالي. كما وتوفّر منصة "سند" بوابة موحّدة لمجموعة متنامية من الخدمات، منها على سبيل المثال الهوية الرقمية وتجديد التراخيص واستخراج بعض الوثائق الشخصية والدفع الإلكتروني ومع ذلك فإن الاستخدام الفعلي للخدمات الإلكترونية بالمقارنة لمراجعه الدوائر الحكومية بالطرق التقليدية لا يزال متواضعًا ودون التوقعات بالرغم من ان شبكة الانترنت تغطي تقريبا كل المناطق المأهولة في المملكة، وتوفر ما يكفي من اجهزه الهواتف الذكية و الحواسيب بيد المواطنين، مما يشير بشكل مباشر الى أن المشكلة ليست في الوصول الى الخدمة، بل في مزيج من العوامل التقنية والسلوكية ما بين مقدم الخدمة ومستخدمها.

يرى العديد من المواطنين أن المنصات الرقمية الحكومية لم تُلغِ البيروقراطية، بل نقلتها من الميدان إلى الفضاء الالكتروني "البيروقراطية الإلكترونية".، فمن وجهة نظر البعض لا تزال الإجراءات الطويلة والخيارات الغير الواضحة موجودة، ولكن بشكل مختلف وأكثر إرباكا". فقد خلقت هذه التجربة في أذهان بعض الناس عبئًا إضافيًا جعلهم يتباطؤون في استخدامها، ليعود البعض منهم إلى ما اعتادوا عليه سابقا" بالذهاب شخصيًا إلى الجهة الحكومية المعنية بالإجراء ، هذا الميل يُعرف في علم السلوك بتحيّز الوضع القائم (Status Quo Bias)، وهو انعكاس طبيعي لتفضيل المألوف حين يبدو البديل محفوفًا بالغموض أو الجهد.

تزداد هذه الفجوة مع تعقيد تصميم بعض المنصات، خصوصًا تلك التي تتطلب من المستخدم اختيار خدمات من ضمن مجموعة خيارات متعددة وقوائم طويلة مليئة بمصطلحات غير مألوفة او مفهومة بما يكفي للتعامل معها، هذه التجربة تُثقل على المستخدم معرفيًا وتُولّد ما يُعرف بالإرهاق المعرفي، وهو ما يدفع الكثيرين إلى ترك المحاولة والعودة إلى المسار التقليدي، حيث يمكنهم على الأقل سؤال الموظف مباشرة.

من جهة أخرى، يرى بعض المواطنين ان الكثير من الخدمات الرقمية الحكومية تفتقر إلى قيمة مضافة واضحة أو مكافأة فورية تُقنع المواطن بتغيير سلوكه.، في المقابل نجد أن منصات أخرى مثل "كليك" أو "إي-فواتيركم" تقدّم فائدة ملموسة وفورية ، تحويل لحظي و شمول مالي لمختلف الشرائح و بدون تعقيدات، فالفرق بين تفاعل الأردنيين مع الخدمات المختلفة لا يكمن فقط في التكنولوجيا، بل في إدراك المستخدم للفائدة، لذلك يمكن القول وبشكل عام، بانه إذا ما شعر المستخدم بأن الخدمة الإلكترونية معقدة أو غير موثوقة أو لا تختصر عليه جهدا"، فسيرى أن لا جدوى من استخدامها.

وتظهر المفارقة بوضوح عند النظر إلى مدى انتشار "كليك" بين الأردنيين. فقد تبنّاها أكثر من 1.6 مليون مستخدم، وتم عبرها تنفيذ معاملات تجاوزت 12 مليار دينار خلال عام واحد فقط. والأهم من ذلك، أن "كليك" تُستخدم من قبل جميع شرائح المجتمع؛ من الشباب والموظفين، إلى أصحاب المحلات والبقالات والمطاعم الصغيرة، فصاحب المطعم الذي يقبل الدفع عبر "كليك" بكل أريحية، هو نفسه الذي يرفض استخدام منصة حكومية إلكترونية، ليس فقط لأنه يجد صعوبة بكيفية الاستخدام، بل لأنه لا يثق بفعالية وسلامة النظام الالكتروني أو لا يرى فيه فائدة مضمونة، هذه الحالة تُظهر بوضوح أن المشكلة ليست فقط باستخدام المنصات الرقمية الحكومية، بل في التصور السلوكي للفائدة والسهولة والثقة.

تجربة "كليك" تقدّم درسًا واضحًا، حين تكون الخدمة الرقمية سهلة الاستخدام، واضحة القيمة، مأمونة من مخاطر الوقوع بالأخطاء، ومبنية على تجارب متكررة ناجحة، مما يساعد بان يتم تبني التجربة بشكل طبيعي، ودون حاجة إلى حملات إقناع مطولة، فنجاح "كليك" لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة تصميم يُراعي السلوك البشري كما هو، لا كما يفترضه الطرف الأخرى وكيف يريده أن يكون.

تجاوز هذه التحديات لا يتطلب فقط تطوير البنية التقنية أو توسيع نطاق التغطية الإعلامية، بل يتطلب اعتماد حلول مستندة إلى مبادئ العلوم السلوكية، وهي مجموعة من الأدوات والمفاهيم التي تُستخدم عالميًا لفهم وتحفيز السلوك الإنساني ، فعلى سبيل المثال، من الضروري تبسيط تصميم الخدمات الرقمية بشكل يجعل استخدامها بديهيًا، وتقليل عدد الخطوات والخيارات التي قد تربك المستخدم، خاصة تلك التي تتطلب الاختيار من قوائم طويلة أو مصطلحات فنية، كما ينبغي إعادة صياغة الرسائل التوعوية بحيث لا تركز فقط على "كفاءة" الخدمة أو "حداثتها"، بل تُظهر الخسائر التي قد يتكبدها المواطن عند تجاهل استخدامها ، مثل الوقت الضائع، أو الوقوف في الطوابير، أو خطر التأخير في إنجاز المعاملة، وهذا ما يُعرف في علم السلوك بتأثير "تجنّب الخسارة" "Loss Aversion". كذلك، يمكن الاستفادة من الزيارات الوجاهية الحالية عبر تحويلها إلى فرص تدريبية مصغّرة، يُرشد فيها موظف مختص المواطن إلى كيفية تنفيذ نفس المعاملة او أي معامله الكترونيه اخرى في المستقبل. أما من حيث بناء الثقة، فمن الضروري عرض قصص حقيقية لمواطنين نجحوا في استخدام الخدمات الإلكترونية، خاصة من فئات اجتماعية متنوعة، مما يُعزز ما يُعرف بـ"الدليل الاجتماعي Social Proof " ويُشجع الآخرين على التجربة.، وأخيرًا، يجب توفير الدعم الفني الفوري داخل المنصات الإلكترونية، مثل المحادثة المباشرة أو المساعدة التفاعلية من قبل مقدم الخدمة لتجنب أن يشعر المستخدم بأنه عاجز ووحيد في حال واجه أي صعوبه تحول دون نجاحه بالحصول على الخدمة.

هناك الكثير من قصص نحاج دول أخرى في تجاوز تحديات مشابهة، ففي المغرب، استعانت الجهات الرسمية بالبلديات ودور العبادة لنشر الوعي بالخدمات الرقمية بلغة قريبة من الناس، وفي مصر، تحولت الرسائل من الحديث عن "التحول الرقمي" إلى إبراز إيجابيات التوفير في الجهد والوقت، أما في تركيا، فقد استخدمت المؤسسات الحكومية اللقاءات الوجاهية لتدريب المواطنين على استخدام الخدمات الإلكترونية، مما مهّد الطريق لبناء ثقة تدريجية.

الأردن لا يحتاج إلى بناء كل شيء من جديد، بل إلى إعادة تقديم ما هو موجود بشكل يتماشى مع طريقة تفكير الناس. المواطنون سيتبنّون الخدمات الرقمية عندما يشعرون بأنها فعليًا أسهل وأوضح وأكثر ضمانًا من الطرق التقليدية، فمقاصد هذا المقال توضح أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي، يجب أن تُصمَّم بما يتناسب مع طبيعة السلوك البشري. وإذا أردنا تغيير السلوك، فعلينا أن نجعل السلوك الجديد هو الخيار الأسهل

* باحث في العلوم والبصائر السلوكية – London School of Economics (LSE)


مواضيع قد تهمك