د . صالح ارشيدات يكتب : “إسرائيل” بين الغطرسة الدولية والتوسع الصهيوني

بقلم: د. صالح إرشيدات :
لا يمكن فهم تفوق "إسرائيل” في المنطقة العربية بمعزل عن ثلاثة مستويات من الشروط والعوامل التي ساهمت في ترسيخ هذه الهيمنة:
دولية وفّرت الدعم السياسي والعسكري، وإقليمية اتسمت بتراجع المواجهة العربية وتبدل الأولويات،
ومحلية هيّأت أدوات السيطرة والتمدد داخل الكيان الصهيوني.
أولًا: الشروط الدولية – الغطاء السياسي والعسكري للهيمنة
1. الدعم الغربي غير المشروط
منذ تأسيسها، تلقت "إسرائيل” دعمًا غربيًا لا محدودًا، خصوصًا الشراكة بين الصهيونية العالمية والمسيحية المتصهينة، من الولايات المتحدة، التي شكّلت العمق الاستراتيجي للمشروع الصهيوني. هذا الدعم شمل مساعدات عسكرية واقتصادية، بالإضافة إلى حماية دبلوماسية في المحافل الدولية، مثل استخدام حق النقض (الفيتو) لإفشال أي قرار يدين ممارسات "إسرائيل” تجاه الفلسطينيين.
أدى ذلك إلى تحصين الكيان ضد المساءلة الدولية، وترسيخ تفوقه العسكري على دول المنطقة.
2. الاختلال النووي وازدواجية المعايير
رغم عدم إعلان "إسرائيل” رسميًا عن امتلاكها سلاحًا نوويًا، تؤكد تقارير أنها تمتلك بين 80 إلى 200 رأس نووي. في المقابل، تخضع دول مثل إيران لرقابة دولية صارمة، مما يبرز ازدواجية المعايير الدولية في التعامل مع قضايا الانتشار النووي، ويمنح "إسرائيل” حرية تهديد استقرار المنطقة دون ردع فعلي.
3. تفكك النظام الدولي بعد الحرب الباردة
انهيار الثنائية القطبية أضعف المؤسسات الدولية، وقلّص قدرتها على فرض الالتزام بالقانون الدولي. هذا أتاح لـ"إسرائيل” تجاوز قرارات الأمم المتحدة، مثل القرارين 242 و338، دون عواقب. بل تحوّلت بعض المؤسسات إلى أدوات لتبرير الانحياز، ما عمّق غياب العدالة الدولية.
ثانيًا: الشروط الإقليمية – فراغ المواجهة العربي وتبدل الأولويات
1. تفكك النظام العربي الرسمي
بدأ التراجع العربي منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر عام 1978، وتوالت بعده اتفاقيات أوسلو ووادي عربة، ثم اتفاقيات أبراهام، التي كرّست واقعًا جديدًا من التطبيع مع "إسرائيل”.
هذه الاتفاقيات أضعفت الجبهة العربية الموحدة، وأخرجت القضية الفلسطينية من دائرة الأولويات الرسمية، ما منح "إسرائيل” مزيدًا من الطمأنينة الإقليمية لتوسيع مشاريعها.
2. الحروب والانقسامات الداخلية
شهدت دول عربية عدة منذ بداية الألفية الثالثة حروبًا أهلية وثورات وأزمات داخلية (العراق، سوريا، اليمن، ليبيا)، مما أدى إلى إنهاك الجيوش وتفتيت الموارد. هذه البيئة وفّرت فرصة لـ"إسرائيل” للتدخل المباشر أو غير المباشر تحت ذرائع أمنية، وساعدتها على التغلغل في بعض الدول عبر التعاون الأمني والاستخباراتي.
3. تحوّل بوصلة العداء وظهور تحالفات جديدة
تبدل التهديد الاستراتيجي في نظر بعض الدول العربية من "إسرائيل” إلى إيران، بسبب تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة. هذا التبدل أتاح لـ"إسرائيل” بناء تحالفات أمنية غير معلنة، وفتح الباب لتعاون عسكري واستخباراتي تحت مظلة "العدو المشترك”، مما منحها شرعية إقليمية متزايدة.
ثالثًا: الشروط المحلية – أدوات التفوق والسيطرة داخل "إسرائيل”
1. بناء الدولة الأمنية
نشأت "إسرائيل” على مفهوم "البقاء بالقوة”، فتم توجيه جزء كبير من موارد الدولة إلى تطوير القدرات العسكرية والأمنية. يشمل ذلك الأجهزة الاستخباراتية، الصناعات العسكرية، وأنظمة الدفاع الجوي مثل "القبة الحديدية”. هذه البنية الأمنية مكّنت "إسرائيل” من تنفيذ اغتيالات واستهدافات دقيقة داخل دول الجوار دون مواجهة ردود فاعلة.
2. الريادة التكنولوجية والسيبرانية
تحوّلت "إسرائيل” إلى قوة تكنولوجية رائدة، خصوصًا في مجالات الأمن السيبراني والتجسس الإلكتروني. شركاتها الناشئة، مثل تلك المطورة لبرامج التجسس كـ"بيغاسوس”، باتت أدوات فعّالة للهيمنة والمراقبة والتأثير في الخصوم داخليًا وخارجيًا.
3. تصاعد التيارات الدينية والاستيطانية
شهدت السياسة الإسرائيلية صعودًا لليمين الديني المتطرف، الذي جعل من التوسع الاستيطاني والتهويد محورًا رئيسيًا في البرامج الحكومية. توسعت المستوطنات، وازدادت وتيرة طرد الفلسطينيين، ما حوّل الصراع إلى صراع عقائدي – وجودي بدلًا من كونه سياسيًا فقط، وأضعف فرص حل الدولتين.
خلاصة:
إن تفوق "إسرائيل” في المنطقة لم يكن نتاج قدراتها الذاتية فقط، بل نتيجة التقاء ثلاث مجموعات من العوامل:
• الدولية: التي وفّرت الدعم والحماية والغطاء السياسي.
• الإقليمية: التي عجزت عن خلق رد موحد، وتخلّت عن مركزية القضية الفلسطينية.
• المحلية: التي بنت منظومة أمنية وتكنولوجية تعزز التوسع وتمنع الردع.
ويظل السؤال المطروح:
هل يمكن للدول العربية اليوم استعادة التوازن وامتلاك إرادة استراتيجية موحّدة لمواجهة المشروع الصهيوني؟
وهل تملك القدرة على مراجعة جذرية تعيد للمنطقة دورها وتأثيرها؟
الإجابة لا تكمن في ردود فعل عابرة، بل في بناء واقع عربي جديد قادر على التأثير لا التلقي فقط.