اسماعيل الشريف يكتب : ملفات نتن ياهو

اسماعيل الشريف يكتب : ملفات نتن ياهو
أخبارنا :  

«الجحيم فارغ، فكل الشياطين هنا بيننا.» – شكسبير
في أحد برامج الفتاوى على إحدى القنوات الفضائية، وُجِّه إلى الشيخ سؤال: «هل يمكن للإنسان أن يتحدث مع الشيطان؟ فأنا أشعر أحيانًا وكأنني في حوار مباشر معه...»
بعد أن حمد الله وصلّى على النبي الكريم، أجاب الشيخ: «لا شك أن الإنسان في صراع مستمر مع الشيطان...»
لو كنتُ مكان الشيخ لأجبتُ السائل قائلاً: الشياطين لا تكتفي بوسوستنا فحسب، بل تعيش بيننا وتتجسّد أمام أعيننا. بل إن الشيطان نفسه قد تجسّد في صورة نتن ياهو.
تحدثت الأخبار يوم أمس عن فقدان نتن ياهو أعصابه أثناء محاكمته بتهم فساد، حيث صرخ في وجه القضاة قائلاً إن حياته أصبحت بائسة.
شاهدتُ قبل أيام فيلمًا وثائقيًا بعنوان «ملفات بيبي»، من إخراج المخرجة الأمريكية الجنوب أفريقية الشهيرة أليكسيس بلوم، التي قدّمت العديد من الأعمال الوثائقية البارزة، أبرزها «قصة ويكيليكس».
يتتبع الفيلم فضائح الفساد التي تلاحق نتن ياهو منذ توجيه الاتهام إليه عام 2019، كاشفًا لقطات استجواب غير مسبوقة، يظهر فيها جالسًا في مكتبه البسيط، وخلفه علم الكيان، بينما تستجوبه الشرطة حول الجرائم المنسوبة إليه. في هذه المشاهد، ينكر نتن ياهو التهم، ويضرب بقبضته على المكتب صارخًا: «إنها سخيفة! أنتم واهمون!»، متصرفًا وكأنه فوق القانون.
لا تقتصر التهم الموجهة إليه على الفساد المالي فحسب، بل تشمل الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، بسبب الهدايا التي تلقاها مقابل تقديم خدمات سياسية واقتصادية. أما زوجته، فتظهر في الفيلم كشخصية متعجرفة ومتسلطة، ومدمنة على الكحول.
يستعرض الفيلم أيضًا كيف يُستقبل نتن ياهو خلال رحلاته خارج فلسطين المحتلة، حيث يعامل كالملوك، خصوصًا في الولايات المتحدة. ويظهر في لقطات عدة متفاخرًا بغطرسته، مدّعيًا أن لا أحد يستطيع حماية الكيان من أعدائه سواه، قائلاً: «أتَعلم؟ أنا أفعل كل شيء فقط من أجل مصلحة الدولة، لا شيء يمكن أن يجعلني أنحرف عن هذه المهمة المقدسة، ولن يجعلني شيء كذلك.»
لكن جرائم نتن ياهو لا تتوقف عند حدود الشمبانيا والسيجار والمجوهرات، بل تمتد إلى العبث بالقوانين لصالح حلفائه. فقد قام بتعديل قوانين الضرائب لصالح صديقه المنتج الهوليوودي أرنون ميلشان، الذي قدّم له هدايا بمئات الآلاف، كما سهل حصول قطب الاتصالات شاؤول ألوفيتش على قروض بقيمة 250 مليون دولار، مقابل تغطية إعلامية داعمة له. وعندما تُعرض تسجيلات لشهود يؤكدون هذه الصفقات، يصرخ نتن ياهو: «أكاذيب! كلها أكاذيب!»
ويظهر في الفيلم الصحفي الصهيوني رفيف دروكر، الذي كشف العديد من الفضائح السياسية الكبرى في الكيان، مؤكدًا أن لنتن ياهو حلفاء من مختلف أنحاء العالم، ما ساعده في ترسيخ سلطته.
يطرح الفيلم قضية محورية، وهي أن نتن ياهو، بعد فوزه المفاجئ في انتخابات 2015 رغم التوقعات التي كانت تشير إلى خسارته، أصبح مهووسًا بالحفاظ على سلطته والسيطرة على الحياة السياسية. ولتحقيق ذلك، بدأ في استقطاب المتطرفين، مثل سموتريتش، الذي يؤيد قتل الفلسطينيين، وبن غفير، الذي احتفل باغتيال إسحاق رابين. وقد أدى هذا التحالف إلى الإبادة الجماعية التي ارتكبت في غزة، والتي تُعَدّ أحد أسبابها الرئيسية محاولته التهرب من الملاحقات الجنائية التي تلاحقه. ويقدم الفيلم رسالة واضحة: نتن ياهو يخشى السجن والخروج من الحياة السياسية، حتى لو كان الثمن تمزيق المجتمع الصهيوني.
لم يكتفِ بذلك، بل استخدم مبادئ الاستعمار الكلاسيكية، «فرّق تسد»، لإبقاء الفلسطينيين منقسمين. فقد سمح، وهو على دراية كاملة، لبعض الدول العربية بدفع 35 مليون دولار شهريًا لحماس لضمان بقائها في السلطة في غزة، رغم معرفته بأن جزءًا من هذه الأموال يذهب إلى تسليحها. في الوقت نفسه، منع أي اتفاق بين حماس وفتح، وحارب بشراسة كل فرصة لتحقيق حل الدولتين.
وعلى الصعيد الداخلي، سعى نتن ياهو إلى إضعاف المحكمة العليا، حتى لا تكون قادرة على الحد من سلطات حكومته، مما أدى إلى احتجاجات واسعة استمرت تسعة وثلاثين أسبوعًا، وأسفرت عن انقسام حاد في المجتمع. وكان هذا أحد العوامل التي مهّدت لطوفان الأقصى، الذي استغلّته حماس لتنفيذ عمليتها. وطالما أن نتن ياهو في حالة حرب، فلا أحد يستطيع محاسبته على إخفاقاته الأمنية.
الفيلم يتعمق أيضًا في الجانب السياسي لنتن ياهو، الذي يُعرف بلقب «الساحر»، بسبب قدرته الفائقة على تشكيل التحالفات التي تبقيه في السلطة. فهو يتمتع بهيبة الزعيم القوي وسط مؤيديه، الذين يرونه رجل دولة لا يهادن أحدًا من زعماء العالم. فقد أغضب أوباما بتحدّيه العلني له، لكنه في المقابل حصل على دعم مطلق من بايدن، الذي وفر له الغطاء الكامل لحربه.
ويختتم الفيلم بطرح سؤالين محوريين: إلى متى سيتحمل الناخبون الصهاينة زعيمًا يؤمن بالنصر العسكري دون أي حلول سياسية؟ وكيف يطيل نتن ياهو أمد الحرب لمصلحته الشخصية، مُلحقًا بالكيان ضررًا لا يمكن إصلاحه؟ ــ الدستور

مواضيع قد تهمك