خضرة المليحة … من نكبة زرعين إلى نكبة جنين

في عمر الرابعة والثمانين، إلا أنها في سريرتها لا تزال تلك
الفتاة الصغيرة في روحها، عيناها المتعبتان تضيئان، وابتسامة لا تفارقها
إلا عندما تتسلل دمعة، ابنة القرية الفلسطينية، تعود بالذاكرة إلى طفولة
وُصمت بنكبة تهجير، وهي اليوم مهجّرة من جديد. قدر اللاجئ الفلسطيني. وقدر
المرأة الفلسطينية.
هي خضرة أبو سرية، من قرية زٍرعين، واليوم من سكان جنين. خرجت من القرية مع أهلها عام 1948 وكان عمرها سبع سنوات حسب هويتها.
التقيناها في منزل أقاربها بعد أن هجّرها الاحتلال من منزلها في مخيم جنين،
فكان حديث شؤون وشجون، وحلاوة ذكريات، ومرارتها، تارة تضحك، وتارة يسيل
الدمع من عينين، قسا عليهما ظلم الاحتلال والاستعمار والاقتلاع من الأرض.
هي خضرة المليحة، وفي ذلك قصة.
فمن أين نبدأ معها؟ من النكبة الأولى. «طلعنا من زرعين يا ولدي، ورحنا على
قرية سيلة الظهر، ومن سيلة الظهر رحنا على جنين، بنينا بالمخيم وقعدنا».
محاطة بالأقارب والأحفاد، تضحك خضرة بخفر، وتقول لنا «كانوا يطلقون عليّ
تسمية خضرة المليحة». لماذا؟ نسألها. «كنت شقراء، وكانت عيناي حلوتين، كنا
نلعب صغارا، البنات كنّ يقلن لي: نريد تبديل عيوننا بعينيك. زمان كنت أخيط،
كنت شاطرة، كنت أخيط ملابس للناس بالأجرة، يعني شو بدنا نعمل، عشنا
والمعيش الله، يا ولدي». ثم تروي لنا الحكاية. لا ريب انها حكتها كثيرا
خلال سبعة وسبعين عاما.
«تهجرت من زرعين وأنا بنت عشر سنين. كنا نروح نقطف فقع (نوع من الفطر) من
سهل زرعين، مرج زرعين من جهة الغرب كله، كان يحيط البلد، كنا نطلع نروح
نجيب فقع، زرعين أم الفقع والعكوب. العكوب اليوم يزرع زراعة، قبل كان يطلع
خلقة من الله». وتسترسل الحاجة خضرة، فالعمر والمرض لم يفتّ في عضدها، ولا
مسّ بالذاكرة. تتذكر ما نسيناه نحن.
«بعدها قعدنا في جنين قليلاً، إن كنت تتذكر، كان هناك بابور النفاع، وكان
بجواره للجيش العراقي «براكية» كبيرة، وأمي كانت شاطرة، كان لقبها الكادرة
(القوية). كانت شاطرة، وأبي الله يرحمه كمان. لما انسحب العراقيون، قال
الناس لأمي: لماذا تدفعون إيجارات؟ روحوا اقعدوا محلهم. وجئنا قعدنا في
البراكية شهر أو شهرين، وبعدها جئنا إلى المخيم». حسب موسوعة القرى
الفلسطينية، كانت منازل زرعين مبنية فوق رقعة أرضٍ مستوية في سهل مرج ابن
عامر شمال شرقي مدينة جنين، وعلى بُعّد11 كم عنها. وتنقل الموسوعة عن كتاب
«بلادنا فلسطين» لمصطفى الدباغ، أنها «قرية عربية قامت في سهل مرج ابن عامر
على بقعة (يزرعيل) الكنعانية»، وأن أصل الكلمة قد يكون أيضا مشتقا من كلمة
سريانية بمعنى (مزارعون) وفلاحون. وقد احتُلَّتْ زِرْعِيّن ومثلها قرية
نورس المجاورة على يد لواء «غولاني» الإسرائيلي في إطار عملية «جديون» وذلك
يوم 30 أيار/مايو 1948.
وكان عدد سكان القرية عند النكبة 1647 نسمة، فيما قُدِرَ عدد اللاجئين من أبناء القرية عام 1998 بـ10116 نسمة.
العودة الأولى
بعد التهجير، وبعد حرب عام 1967، أتيح للكثير من المدنيين
الفلسطينيين أن يزوروا مسقط رأسهم.. زيارات عابرة، لا تشفي الغليل، زيارات
المشتاق إلى حضن انتزع منه بقسوة عُرف بها جلاوزة الاحتلالات الاستعمارية
والتفوق العنصري. كان الفلسطيني يعود، زائرا، أو فدائيا متسللا، إلى أرضه.
عادت خضرة المليحة زائرة إلى زرعين. «كنا نروح نجيب منها شومر، زرعين، رحنا
شربنا من ماء زرعين، أنا وبعض النساء، كنا نروح بعد التهجير. جامع في نصف
البلد، عاملين ساحة أكبر من هذه الساحة، ويقولون فيها البئر، ما قربنا
عليه، شفنا زرعين وعدنا. لم يكن هناك ولا دار، إلا آثار الجامع، ظلت منه
واجهة أو واجهتان». ثم تتوقف قليلا.. وتفصح عما يجول في خاطرنا كلنا
«عيشتنا مثل هذه الأيام وأسوأ، شو شفنا؟ مثل هالأيام وأسوأ. يعني هل هي
قليلة طلعتنا الأخيرة من البلاد؟ منازلنا راحت وهُدّت، مثل هذا الخروج.
يعني هل هي قليلة طلعتنا؟».
مجرى الدمع مسكّر
«عيناي، عملت عملية فيهما، مجرى الدمع مسكّر، الحمد لله».
في نيسان/ أبريل عام 2002، توغل جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنين ومخيمها،
وارتكب انتهاكات. عرف ذلك بمجزرة جنين التي استشهد فيها 58 فلسطينيا. عاشت
خضرة هذه الأحداث، كان التهجير الثاني في حياتها.
«عام 2002 لم نخرج، طلعنا يوم ورجعنا، ورجعنا على دورنا، ليس مثل هذه
المرة. ظلمونا، الله يظلمهم، حاشاك، هدوا الدور. حارة الحواشين كلها هدوها،
وطلعوا لفوق، وحارة الدمج في المخيم راح منها شوي، بس يعني ليس مثل هذه
المرة». أما التهجير الثالث، هذا العام فأشد وطأة. فالاحتلال لم يكتف
بهجماته التي يشنها على المدنيين بزعم مطاردة المقاومين، بل عمد إلى تدمير
أجزاء واسعة من المخيم، في سياق منهجي يسعى إلى القضاء على مخيمات الضفة،
معاقل المقاومة والصمود ضد الاستيطان والاحتلال/ والشاهد على حق العودة.
هجر الاحتلال أكثر من 21 ألفا من سكان المخيم، وأقام حوله بوابات حديدية،
وشرع في تدمير حاراته ومنازله.
«شوف المخيم كله شوارع، يا ويلهم من الله. جاءت الطيارة، صارت تحوم ونحن
قاعدين نشرب شاي، وابن أخوي يشرب نرجيلة إلى جانبي. اختبأنا، كنا ملتصقين
بالحائط، ما شفنا إلا الضربة، خبطت، خرجنا وغادرنا». وتروي خضرة رحلة
النزوح عن المخيم: «أنا طلعت ومعي عصا، ساعدني شباب، الله يرضى عليهم،
نزلوني، مع المغرب وصلنا. بدنا نطلع برا، قام الجندي وصار يقول: يلا
ارجعوا، ارجعوا عالبيت، ممنوع الخروج، خلص أغربت الدنيا، روّحوا». وتستطرد
«قلت لابن أختي: يا أخوي، اعطني تلفونك، ربما مرّقوني، أنا ما بقدر أرجع،
الجبال طلعتها، هو أنا بكامل قوتي يا ولدي؟ قربت على جندي الاحتلال وقلت
له: يا خواجة، أنا أمشي بالعصا، ورجلي مكسورة، لوّح لي بيده أن اخرجي، مشيت
حتى وصلت حي خروبة في جنين، وصلت خروبة بعد العشاء بالليل، صار الناس
يتوافدون، كثر أولاد الحلال، ويعملون خير مع الله».
وتقول الحاجة التي تقارب التسعين من العمر «كان الجنود يهجرون الناس من هذه
الناحية، من مخيم العودة، من عند منطقة أبو الظاهر، أرسلوهم أينما يريدون،
والله شاب ابن حلال أخذ ناس على الحارة الشرقية، وأنا أخذني على خروبة».
المخيم صار ذكرى
ولخضرة، ابنة زرعين، ذكريات في مخيم جنين أيضا.. «داري في
المخيم كان زمان وزمان، مالنا والله. يا خالتي، بقت دارنا في المخيم مليحة،
عندي ثلاث غرف، وحاكورة مثل نصف هذه الساحة، بالساحة عندي كنت زارعة
ليمون، زارعة «اسكي دنيا»، وكل إشي، والله عندي». «وكانت عندي جنينة، كنت
مسعدة (قوية) وأحب الزريعة، والله كل الورد واللي بفتح، كله زرعته، كانوا
يضربون المثل بشطارتي، وأنا ما بسواش قرش». عند هذا الحد، تنهمر دموع عزيزة
من المرأة الفلسطينية الصابرة، فتسترسل بحداء شعبي:
«كنا نقول: يا كشيلي، بعايد، يا دمع عيني بعايد، بقينا قراب وصبحنا بعايد، اجانا العيد وعلى مين نعايد، تلوح العين ما تلاقي الحباب». ــ القدس العربي