أ. د. احمد منصور الخصاونة : الأردن بين الفوضى والبصيرة
في خضمّ الصراعات المحتدمة على المستويين الإقليمي والدولي، يتردّد على ألسنة البعض ما يُسمّى بـ «نظرية ضرب الظالمين بالظالمين»، وكأننا أمام مشهد كاريكاتوري تعبث فيه قوى الشرّ ببعضها، بينما تقف الشعوب المقهورة على الهامش، تترقّب بصمت نتيجة المعركة. هذه النظرية التي تبدو للوهلة الأولى وكأنّها تبرير للحياد، تخفي في طيّاتها خطورة كبرى؛ فهي تُعوّل على تصادم قوى الهيمنة والطغيان، وتنتظر من هذا التصادم أن يولد عدالة أو حرية، وكأن الظلم يُنتج الخير إذا ما تقاتل مع ظلمٍ آخر! إنّها قراءة سطحية لتاريخ البشرية، وسذاجة سياسية لا تليق بشعوبٍ دفعت من دمائها ما يكفي لتدرك أن الاستبداد لا يُحطّم بعضه بعضًا إلا ليفتح الطريق لمستبدٍّ أشدّ فتكًا، ولطغيانٍ أكثر ضراوة.
لقد علّمنا التاريخ أن الظالم المنتصر لا يبسط عدالته على الأرض، بل يسحق الضعيف، والخراب اشتعالاً. فحين تتقاتل الوحوش، لا تزهر الأرض، بل ترتجف الأشجار وتذبل الأماني. إنّ الركون إلى «نظرية ضرب الظالمين بالظالمين» ليس موقفًا سياسيًا ناضجًا، بل هو تنصّل من المسؤولية، وهروب من بناء مشروع حضاري بديل. فالشعوب الحيّة يجب ان لا تنتظر نتيجة معركة بين الطغاة، بل تنهض بمشروعها، وتقاوم بكرامتها، وتبني أدوات نهضتها، وتطرح بديلها الأخلاقي والسياسي والإنساني.
نحن لا نعيش على هامش التاريخ كي نصفّق لطاغية يهزم آخر، ولا نربّي أبناءنا على منطق الانتظار السلبي، بل على الحلم والمبادرة، وعلى أن العدالة لا تهبط من السماء حين يقتتل الجبابرة، بل تُنتزع وتُبنى، وتُكتب بدماء الأحرار وإرادة الشرفاء. لكن السؤال الأهم، والأكثر إلحاحًا، الذي يجب أن يُطرح بصراحة وشجاعة: هل نخرج نحن – كعرب وكمجتمعات – سالمين من بين أنياب المتصارعين؟
هل يُكتب لنا النجاة إن وقفنا على الحياد، أو اكتفينا بدور المتفرج الذي يراقب الظالمين وهم يتناحرون؟
العبرة ليست في من ينتصر من الظالمين، بل في ما تفعله أنت ونحن – كأمة، كشعب، كفكرة – قبل أن تنهشك كفاه، وقبل أن يتحوّل صراع الطغاة إلى كارثة تنسكب على رؤوس الأبرياء. إن من يظن أن اشتعال المعارك بين قوى الهيمنة سيمنحنا فرصة لالتقاط الأنفاس، أو أن تقاطع مصالحهم سيجلب لنا النهضة على طبق من ذهب، لم يقرأ تاريخ الاستعمار، ولا يفهم كيف تتناوب القوى الكبرى على نهش الجغرافيا وسرقة السيادة. الظالم لا يهزم الظالم من أجلنا، بل يتربّص بة وبنا بعد أن يفرغ من خصمه، فيواصل السحق والتفتيت، ويعيد إنتاج الخراب بلون جديد وفقا لمصالحة.
ولذا، فإن النجاة لا تكون بالانتظار، ولا بالتشفي الأجوف من مشاهد الصراع، بل بإعادة بناء مشروع عربي حضاري ، يُخرجنا من دور الضحية الدائمة، ويمنحنا الكلمة والفعل والمكانة. وحدها الأمم التي تملك مشروعها، وموقفها، وإرادتها، تستطيع أن تمرّ بين أنياب الوحوش دون أن تُفتَرس. ولم تنهض أمة على أنقاض صراع الآخرين، بل في لحظة وعي تتجاوز الخوف والاتكال، وتؤسس مشروعها المستقل، المستند إلى إرادةٍ حرة، وعقلٍ ناضج، وقرارٍ سيادي لا يهاب كلفة النهوض. وحدها البصيرة، والإرادة، والمشروع الحضاري، هو ما يقي الأمم من أن تكون مجرد هامشٍ في سجلات المنتصرين.
لكن في خضمّ هذه الفوضى الإقليمية والدولية، لا بد من وقفة موضوعية تُنصف الحق وتُقوّم البوصلة: فثمّة دولٌ لم تختبئ خلف ستار الحياد السلبي، ولم تساير منطق «الانتظار»، بل اختارت أن تكون صوتًا للعقل، وحائط صدّ في وجه الفوضى. وإنّ الأردن وقيادته الهاشمية، وعلى رأسها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، لم يقفا يومًا على الهامش، ولم يتخذا من مراقبة الحرائق دورًا، بل خاض الأردن – بقيادته ومؤسساته – معارك السياسة من أجل نزع فتيل النزاعات، والدفاع عن حقوق الشعوب في الأمن والكرامة والسيادة. فبينما استسلم البعض لفتنة الاستقطاب، كان صوت الأردن عقلانيًا، ثابتًا، لا يُجامل في الثوابت، ولا يساوم على الحق، مؤمنًا أن السلام لا يُصنع بركام الخراب، بل بإرادة الشعوب، وصدق النوايا، ووضوح الرؤية. لم يكن الأردن في يوم من الأيام جزءًا من محور يؤجج الفتن، بل كان دومًا عامل تهدئة، وساعيًا إلى حلول تحفظ للشعوب كرامتها وأمنها. وفي الوقت ذاته، لم تشغله العواصف الخارجية عن ورشة الإصلاح الداخلي. فبخطى واثقة، يمضي الملك في مشروع تحديث وطني شامل، يُعيد بناء الدولة على أسس حديثة، تبدأ بالتعليم وتنتهي بالاقتصاد، وتمر عبر الإدارة العامة، وتمكين الشباب، وترسيخ سيادة القانون.
إنها معركة مزدوجة: مواجهة التحديات الخارجية بالحكمة والدبلوماسية، وبناء الداخل على قواعد التنمية والكرامة. وهذا ما يجعل الأردن نموذجًا فريدًا في محيطٍ مضطرب؛ دولة صغيرة في الجغرافيا، لكنها كبيرة في أثرها، ورصينة في خطابها، وعاقلة في خياراتها. وإننا – كحكومة، ومؤسسات، ومجتمع، وأفراد – لسنا في رفاهية التفرج، ولا في ترف الحياد. إننا مطالبون أن نكون بناة مشروع، لا رواة شكاوى؛ روّاد نهضة، لا شهود انكسار.
إن المشروع الأردني، بقيادة جلالة الملك، ليس مسؤولية رأس الدولة وحده، بل مسؤولية وطنية جامعة، تتطلب أن يشمر الجميع عن سواعدهم، وأن نرتقي – بالفكر والسلوك – إلى مستوى اللحظة، لأن الأوطان العظيمة لا تنهض إلا حين يؤمن أبناؤها بأنهم شركاء لا رعايا، وأن البناء لا يكون إلا بأيدٍ وطنية متكاتفة، وقلوب مؤمنة، وضمائر يقظة.
إن المرحلة التي نعيشها – بكل ما فيها من اضطراب وتشظٍ – تستدعي منا أن نرتقي بخطابنا، وأن نخرج من ضيق ثنائيات «الظالمين» إلى أفق أوسع من الوعي والمسؤولية. لسنا مضطرين أن نكون مع هذا الطاغية أو ذاك، ولسنا مطالبين بأن نختار بين نارين. بل إن واجبنا الأسمى هو أن نحمي الوطن، ونصون المنجز، ونزرع الأمل في قلوب الأجيال. فنحن، لسنا بين الظالمين، ولسنا ضحية. نحن أصحاب مشروع، وأهل كرامة، وأمة تملك وعيها وقرارها، وتعرف أين تضع خطواتها. نرفع رايتنا الأردنية عالية، لا تنكسر في الريح، ولا تنحني أمام العواصف، لأنها مغسولة بدم الشهداء، ومحروسة بعيون الرجال الصادقين، ومرفوعة بهمّة شعب يعرف أن الكلمة الطيبة فعل، وأن الوطن لا تحميه إلا إرادة أهله.