الأخبار

أ. د. ليث كمال نصراوين : المنتخب الوطني والهوية الأردنية الجامعة

أ. د. ليث كمال نصراوين : المنتخب الوطني والهوية الأردنية الجامعة
أخبارنا :  

نجح المنتخب الوطني الأردني لكرة القدم في بلوغ نهائي كأس العرب لأول مرة في تاريخه، في إنجاز رياضي غير مسبوق يضاف إلى سجلاته المشرفة خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي جعل الأردنيين يلتفون حوله من مختلف الأطياف السياسية والشعبية. ولم يبق هذا النجاح حدثاً رياضياً فحسب، بل تحوّل إلى حالة فرح شعبي عام كشفت عن عمق الهوية الأردنية الجامعة، وعن قدرة المجتمع الأردني على إنتاج لحظات إجماع وطني تتقدم فيها فكرة المواطنة والانتماء على ما سواهما.

إن الالتفاف الشعبي حول لاعبي المنتخب وما يقدمونه من مستوى كروي مميز لا يجب النظر إليه من زاوية رياضية أو اجتماعية فقط، بل ينبغي التوسع في قراءته لما يحمله من دلالات دستورية عميقة، تقوم على ترسيخ فكرة الهوية الأردنية الجامعة برموزها وشخصياتها الوطنية. فالعلم الأردني والشماغ زينا صدور الأردنيين وأعناقهم في مختلف محافظات المملكة وخارج الوطن، حتى إن الأشقاء العرب الذين شجعوا لاعبي المنتخب باتوا يطلقون عليهم وصف "النشامى” كعلامة وطنية أردنية تجاوزت حدود الجغرافيا نحو الفضاءين الإقليمي والدولي.

إن الدولة الأردنية، عندما صاغت دستورها، لم تكن تسعى إلى مجرد إصدار وثيقة خطية تنظم عمل السلطات وتبين العلاقة بينها، بل هدفت إلى إنشاء عقد اجتماعي يقوم على تكريس الهوية الأردنية وتأكيد الانتماء الحقيقي للدولة بوصفها قيمة عليا تحتضن التعدد ولا تنكره. وحين تتجسد هذه الروح في سلوك الأفراد وتصرفاتهم، تتحول النصوص الدستورية النظرية، التي قوامها الجنسية الأردنية والمواطنة الحقّة، من أحكام مكتوبة إلى سلوك جمعي يعزز وحدة الدولة وتماسكها، ويجنبها التشظي والانقسام المجتمعي.

لقد أدى المنتخب الوطني دوراً رمزياً غير منصوص عليه في الدستور، حين أسهم في ترسيخ الإجماع المجتمعي حول تشجيع الفريق الأردني. فالشرعية الدستورية الحديثة لا تقوم على نصوص مكتوبة ومصاغة بإتقان فحسب، بل على ما تمنحه الرموز الوطنية من شعور بالانتماء، وما تولده من اندفاع شعبي لمناصرتها والدفاع عنها. وما فعله المنتخب أنه كشف، بعفوية تامة ومن دون خطاب تعبوي أو توجيه من أي جهة، عن الوجه الحقيقي لارتباط الأردني بدولته، بعد محاولات متكررة لتشويه هذه العلاقة وتصويره وكأنه يعادي نظامه السياسي ومصالحه العليا.

إن الأردني الأصيل يعبّر عن انتمائه الحقيقي لدولته من خلال إيمانه برموزها الوطنية، فيحمل الشماغ على كتفه والعلم بين يديه ويهتف عاليا باسم الأردن، بصرف النظر عن ميوله السياسية أو انتماءاته الحزبية. فالدولة الأردنية عبر تاريخها لم تسع إلى إلغاء الخلاف، بل عملت على إدارته ضمن سقف الهوية الوطنية الجامعة. والمعارضة، في أصلها الدستوري، ليست خصومة مع الوطن، بل هي جزء من بنيته الأساسية ما دامت تعمل داخل إطار الدولة وتحترم قواعدها وتسعى إلى خيرها. فالاختلاف يثري الدولة حين يبقى محكوماً بالدستور، أما الانقسام فيهددها حين يتحول إلى قطيعة مع فكرة الوطن الجامع.

ومن منظور دستوري، فإن ما شهدته شوارع الأردن وأحياؤه من خروج الأردنيين محتفلين بمنتخبهم يشكل تجلياً واضحاً لمفهوم المواطنة الفاعلة، تلك التي لا تكتفي بحمل الجنسية أو التمتع بالحقوق والحريات، بل تتحول إلى سلوك جمعي حين يشعر المواطن أن نجاح الدولة، برموزها السياسية والثقافية والرياضية، هو امتداد لذاته وكرامته وشعوره بالوجود. ومع اتساع الانتماء العربي في وجدان الأردنيين، تبقى الهوية الأردنية الجامعة إطارهم السياسي والدستوري الحاضن، الذي يعلو في لحظات الإجماع الوطني ويثبت معنى الدولة في الوعي العام.

هذه هي المواطنة التي يفترضها الدستور في روحه، لا بوصفها مفهوماً نظرياً، بل قيمة حيّة تظهر في لحظات الاختبار الوطني. فالمواطنة ليست امتيازاً تمنحه الدولة، ولا شعاراً يرفع في المناسبات الرسمية، بل علاقة متبادلة قوامها حقوق تصونها الدولة، وواجبات يلتزم بها المواطن، وفي مقدمتها احترام سيادة القانون وصون الوحدة الوطنية من خطاب الكراهية والتخوين.

وتكمن الأهمية الأعمق لحالة الفرح الشعبي العام هذه في أنها لم تُفرض بقرار رسمي، ولم تُصنع بخطاب سياسي، بل نشأت تلقائياً من المجتمع ذاته، وهذا ما يمنحها قيمتها القانونية والسياسية، لأن الوحدة القائمة على القناعة أرسخ من تلك القائمة على الإلزام، وتشكل قاعدة صلبة لأي مشروع وطني، سواء تعلق بالتحديث السياسي أو الإصلاح المؤسسي أو تعزيز الأمن والاستقرار. وهذه العفوية ليست تفصيلاً عابراً، بل معياراً من معايير قوة الكيان السياسي، لأن الجماعة التي تلتف طوعاً حول رموزها الوطنية هي الأقدر على إنجاح برامجها وإدارة أزماتها وتجاوز تحدياتها.

إن الأردن، وهو يمضي اليوم في مسارات تحديث شاملة ويواجه تحديات داخلية وإقليمية معقدة، بأمسّ الحاجة إلى هذا النوع من الالتفاف الشعبي الواعي، القائم على الثقة بالدولة، والإيمان بأن الأردن هو الوطن الذي يجب حمايته والدفاع عنه والتفاخر به. وقد قدم المنتخب الوطني مثالاً بليغاً، لا في كرة القدم فقط، بل في معنى المواطنة الحقيقية، مؤكداً أن الهوية الوطنية الجامعة لا تزال حية في قلوب الأردنيين وقادرة على توحيدهم، وأن وحدتنا راسخة ما دمنا نوجهها نحو كل رمز أردني حمل اسم الوطن ورفع علمه وشعاره.

ويبقى الأمل أن لا تتوقف هذه الروح الجماعية عند حدود المباراة القادمة ونتيجتها النهائية، بل أن تمتد إلى ميادين الشأن العام كافة، وأن يبقى الأردنيون ملتفين حول وطنهم وأمنه واستقراره بذات الصدق الذي التفوا به حول منتخبهم الوطني. فالدول لا تُصان بالنصوص وحدها، بل بإرادة مواطنيها حين يختارون الوطن أولاً، وحين يجعلون الدستور مرجعيتهم الجامعة في السياسة والحياة العامة، كما جعلوا المنتخب رمزهم الجامع في الملعب.

- أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية

مواضيع قد تهمك