مالك العثامنة : السودان تحت النار.. وأوروبا في مرمى الارتداد
لم تعد الحرب في السودان شأنا داخليا يمكن عزله داخل حدوده الجغرافية، بل تحولت إلى مرآة مكبرة لصراع دولي أوسع على الموارد والممرات والمياه الدافئة، فالصراع القائم منذ إبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تجاوز معادلة السلطة المحلية، ليصبح ساحة تتقاطع فيها حسابات إقليمية ودولية، تتقدم فيها روسيا كلاعب يتحرك بهدوء وثقة، وبما لم يعد خافيا على العواصم الأوروبية.
أوروبا، التي راقبت المشهد السوداني في بداياته ببرود حذر، بدأت تدرك أن ما يجري جنوب المتوسط لا يمكن التعامل معه كأزمة بعيدة، فالفوضى في السودان فتحت مسارات جديدة للهجرة غير الشرعية، عبر ليبيا وتشاد والنيجر، وأعادت تنشيط شبكات تهريب البشر والسلاح، في لحظة تعاني فيها القارة العجوز من هشاشة داخلية وضغوط سياسية متزايدة، ومع اتساع دائرة الفوضى، بات السودان نقطة ارتكاز محتملة لتهديدات أمنية تتجاوز بعدها الأفريقي.
في قلب هذا المشهد، تتحرك موسكو ضمن إستراتيجية طويلة النفس، فبعد تضييق الخناق عليها في المتوسط، وانشغالها بحرب أوكرانيا، تبحث روسيا عن منافذ بديلة تعيد من خلالها التموضع الجيوسياسي، والسودان، بموارده الطبيعية وموقعه الحرج على البحر الأحمر وقربه من القرن الأفريقي، يبدو بوابة مثالية لهذا التمدد، ولم يكن الحديث عن قاعدة بحرية روسية مجرد شائعة، بل بندا حاضرا في محادثات سابقة، أثار قلقا مصريا وأوروبيا متزايدا، ومراقبة أميركية حذرة ومتوجسة.
في المقابل، لا يمكن قراءة الصراع السوداني بمعزل عن بنيته الداخلية المعقدة والمتشابكة، فالجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان ما يزال، حسب تقارير تتزايد في الانتشار، يحمل إرث النظام السابق، مع تغلغل واضح لشبكات مرتبطة بالإسلام السياسي "التيار الإخواني تحديدا" داخل مفاصله، وهي امتدادات لم يتم تفكيكها منذ سقوط عمر البشير (الذي لا يؤكد أحد أين وتحت وصاية من هو اليوم)، هذا الواقع يضع البرهان في معادلة مأزومة بين حاجته لتماسك المؤسسة العسكرية، وضغوط دولية تطالب بإصلاح جذري لا يبدو متاحا في ظل الحرب.
أما قوات الدعم السريع، فرغم الاتهامات الثقيلة الموجهة إليها بارتكاب جرائم واسعة بحق المدنيين، فإن التقارير الحقوقية لم تُعفِ الجيش من انتهاكات مشابهة، ما يعكس مأساة صراع بلا أطراف بريئة، وبلا أفق سياسي واضح. وسط هذا كله، يغيب الخيار الوحيد القادر على إنقاذ السودان: الدولة المدنية، فالقوى المدنية التي فجرت انتفاضة 2019 فُكِّكت أو هُمِّشت، وتحولت مطالب التغيير إلى ذكرى بعيدة تحت وطأة السلاح، ومع تصاعد التدخلات الخارجية، بات خطر الانزلاق نحو نموذج ليبي أو صومالي أكثر واقعية.
أوروبا اليوم أمام اختبار حقيقي، فالتعامل مع السودان كأزمة هامشية يعني ترك خاصرتها الجنوبية مكشوفة أمام تمدد روسي، وتصاعد شبكات التطرف والتهريب، أما فهمه كخط دفاع أول، فيتطلب مقاربة سياسية وأمنية أعمق من بيانات القلق المعتادة، قبل أن يصبح الارتداد أقرب مما تتوقعه العواصم الأوروبية. ــ الغد