د. بلال محمد الجبر : العيش خارج الشبكة بين هدف الحرية وواقع التنظيم
في مجتمع تزدادُ فيه تعقيدات الحياة اليومية والأعباء الاقتصادية، برز
مؤخرا تيار ينادي بفكرة (العيش خارج الشبكة Off-Grid Living) كخيارٍ بيئي
واقتصادي وتوجه بالاكتفاء الذاتي والتحرر من قيود الأنظمة والشبكات
المركزية وأعباء فواتير الطاقة والمياه والصرف الصحي والعودة للزراعة وقد
يصل الأمر إلى الارتباط الوظيفي التقليدي. ورغم ما يمنحه هذا الفكر من
أهداف بالاستقلال الشخصي، إلا أنه يضع أصحابه في مواجهة حتمية مع واقع
المجتمعات المنظمة، ما يفتح الباب أمام جدل عميق حول الحد الفاصل بين حق
الفرد في تقرير خيار احتياجاته، وبين سلطة الدولة في إدارة المرافق العامة
وفرض التنظيم القانوني.
العيش خارج الشبكة هو نمط حياة يعتمد فيه
الأفراد على الموارد الذاتية لتوفير الاحتياجات الأساسية؛ مثل الكهرباء،
والمياه، والصرف الصحي، والغذاء، دون الارتباط المباشر بشبكات الخدمات
العامة. وغالبًا ما يعتمد هذا النمط على الطاقة المتجددة كالشمس والرياح
لتوليد وتخزين الكهرباء، وتجميع مياه الأمطار لإعادة استخدامها، والعودة
للزراعة المنزلية، بهدف تقليل استخدام البنية التحتية التقليدية والخدمات
التي ترتبط بالمؤسسات الحكومية أو توفرها مؤسسات القطاع الخاص وتتطلب
التزاما ماديا مقابل ذلك.
يدفع من يتبنى فكرة العيش خارج الشبكة بأنها
تعمل على تعزيز الاستقلالية للفرد أو الأسرة وتقلل التكاليف على المدى
البعيد، ولها أثر ايجابي في المحافظة على البيئة من خلال خفض الانبعاثات
والتلوث واستهلاك الموارد. كما تمنح شعورًا بالتحكم في نمط الحياة وتعزيز
الاستهلاك بمسؤولية، وتشجيع الابتكار والاكتفاء الذاتي، خاصة لمن يقطن
المناطق الريفية أو النائية.
رغم جاذبية الفكرة الا أنها لا تخلو من
التحديات والمخاطر من حيث ارتفاع التكاليف الأولية للبناء والتأسيس، وظاهرة
التقلبات المناخية التي قد تحد من تحقيق الاستفادة المثلى من الموارد
الطبيعية، فضلا عن الممارسات التي قد تكون ضارة بالبيئة في مسائل معالجة
المياه والصرف الصحي والتخلص من النفايات وسوء التعامل مع التربة الزراعية.
إضافة الى المتطلبات القانونية والتنظيمية التي تفرضها الدولة فيما يتعلق
بالبناء والسلامة والصحة العامة وحتى في الخدمات المجانية التي تقدمها
كالتعليم الالزامي والرعاية الصحية، عدا عن العزلة الاجتماعية وصعوبة
الوصول إلى الخدمات الأساسية في حالات الطوارئ.
تتفاوت النماذج تجارب
الدول في التعامل مع توجه العيش خارج الشبكة؛ فبينما تتبنت بعض الولايات
الأمريكية ومقاطعات كندية أطرًا تنظيمية مرنة تسمح بالعيش خارج الشبكة وفق
معايير ومتطلبات محددة، سلكت دول أوروبية كألمانيا والسويد مساراً مختلفاً
عبر تشجيع الطاقة البديلة التي تتيح الاستقلال مع الإبقاء على الشبكات
العامة كخيار احتياطي لضمان الأمان الخدماتي. وفي المقابل، لا تزال دول
أخرى تفرض قيوداً صارمة وتراقب هذا النمط بدعوى الحفاظ على معايير الصحة
والسلامة العامة.
في الأردن التشريعات الحالية كقانون الطاقة المتجددة
ونظام التصدير الصفري تسمح بالاعتماد على الطاقة الشمسية بشكل منظم في
تغطية احتياجات الكهرباء للقطاعات المنزلية والاقتصادية المختلفة تحت اشراف
وموافقة واجراءات هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن. كذلك وجود بعض التجارب
المشجعة مثل اعتماد المخيمات السياحية على الطاقة الشمسية وفكرة مشاريع
النزل البيئية ومشاريع الزراعة المستدامة في البادية ووادي الأردن التي
تعتمد على الحصاد المائي، عدا عن بعض التجارب الذاتية الناجحة للأفراد. لكن
تبرز بعض المعوقات تحد من جدوى الفكرة كتقلب المناخ وندرة المياه
والاشتراطات الحكومية تشكل تحديا اداريا وتنظيميا ولا تستهوي من يتبنى فكرة
العيش خارج الشبكة مثل اشتراطات رخص البناء والحصول على اذونات الأشغال
وقيود حفر الآبار واستخراج المياه، هو ما يجعل الأردن حالة مثيرة للاهتمام
في النقاش بين الاستقلال الفردي ومتطلبات الدولة.
يبقى العيش خارج
الشبكة خيارًا مشروعًا يعكس تطلعات نحو الاستقلال والاستدامة، لكنه لا يمكن
أن يكون بديلاً كاملاً عن دور الدولة والتنظيم العام. التحدي الحقيقي لا
يكمن في اختيار أن كون مع أو «ضد فكرة العيش خارج الشبكة، بل في إعادة
ابتكار العلاقة بينهما. يمكن للحكومات أن تستوعب هذه الرغبة المشروعة في
الاستقلال عبر سن تشريعات مرنة وآمنة، وتشجيع التقنيات الخضراء اللامركزية
تطبق في مناطق تجريبية ترعى هذه الفكرة تحت إشراف متخصص، مما يجعل فكرة
الاستقلال متوازنة ذكية لا تنقطع عن المجمتع انقطاعا تاما بل تعزز
الاستدامة والاعتماد على الذات وتقليل هدر الموارد وبقاء الفرد جزءاً من
النسيج الاجتماعي الأوسع محمياً بحقوقه ملتزماً بواجباته.