اسماعيل الشريف يكتب : بين الجدار والاستيطان الرد المطلوب

في ضوء ما يجري، أؤكد أن اتفاقية السلام هذه باتت وثيقة يملؤها التراب- أيمن الصفدي.
صادقت حكومة الكيان المحتل على قرار بإقامة جدار عملاق يمتد عبر 425 كيلومترًا على طول الحدود مع الأردن، مجهزًا بأحدث تقنيات الاستشعار الإلكترونية ومنظومات دفاعية متعددة المستويات. وتشير الخطط الرسمية إلى انطلاق المرحلة الافتتاحية لهذا المشروع خلال الشهر الجاري. وفي السياق ذاته، صادقت السلطات نفسها على إنشاء 22 مستوطنة جديدة عبر أراضي الضفة الغربية، تتضمن مستوطنات استراتيجية منتشرة على امتداد حدودنا الغربية في منطقة الأغوار ، فضلًا عن إضفاء الصبغة الرسمية على تسع بؤر استيطانية قائمة في المنطقة المذكورة لتصبح مستوطنات معترف بها قانونيًّا. وعبّر سموتريتش عن حماسه البالغ لهذا القرار واصفًا إياه بـ»يوم عظيم» و»درع واقٍ».
تتمحور الذريعة المعلنة وراء هذه القرارات الخطيرة حول الحيلولة دون تهريب الأسلحة أو تسرب عناصر المقاومة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، غير أن الحقيقة الجوهرية تكمن في المسعى الحثيث لتقويض مشروع حل الدولتين من خلال فرض معادلة ديموغرافية جديدة، واستثمار هذا الواقع المفروض كورقة مساومة قوية في أية مفاوضات مرتقبة مع الجانب الفلسطيني. ذلك أن منطقة الأغوار تستحوذ على ما يقارب 30% من إجمالي مساحة الضفة الغربية، والهيمنة عليها تعني عمليًّا عزل الضفة عن امتدادها العربي الطبيعي، مما يمهد الطريق أمام ضم هذا الشريط الحيوي بصفة نهائية.
قد يتصور فريق من المراقبين أن إقامة هذا الجدار الفاصل وتكثيف المنشآت الاستيطانية على طول خطوط حدودنا يشكل إقرارًا ضمنيًّا بالحدود النهائية لـ»دولة» الاحتلال، وأن كافة الخرائط التي تُنشَر أو التصريحات الصهيونية المتعلِّقة بأطماعهم التوسعية في الأردن تفقد بذلك مصداقيتها وقيمتها العملية.
إلا أن الواقع يكشف أن تبعات هذه الإجراءات التعسفية لا تقف عند حدود إلحاق الأذى بالشعب الفلسطيني وحده، وإنما تتجاوز ذلك إلى المساس المباشر بركائز الأمن القومي الأردني من جوانب متعددة ومعقدة. فهي تعمل على تجفيف أي دور محوري يمكن أن يضطلع به الأردن في صون الوضع الراهن في منطقة الأغوار الاستراتيجية، وتضعف بشكل منهجي مساعيه الدؤوبة الرامية إلى إسناد مشروع حل الدولتين وبلوغ حالة من الاستقرار الحقيقي والدائم في المنطقة. كما تفضي هذه السياسات إلى خلق انقطاع جغرافي صارخ بين الأردن وفلسطين، وتستحدث تحولًا ديموغرافيًا بالغ الخطورة على امتداد حدوده الشرقية، وتعمل على تفتيت العمق العربي الأصيل للقضية الفلسطينية. أما القرارات الأحادية الجانب التي يُقدِم عليها الكيان المحتل بشكل متكرر، فهي بمثابة مؤشر جلي وقاطع على أن معاهدة السلام لم تعد تحمل أدنى قيمة أو اعتبار في منظوره. وفوق كل ذلك، تعمل هذه الممارسات القسرية على ترسيخ نظام فصل عنصري مقيت على حدودنا الغربية، الأمر الذي من شأنه أن يلقي بظلاله السلبية الكثيفة على المناخ الاستثماري في منطقة مرشحة للبقاء في حالة توتر وعدم استقرار دائمين.
وعلى الرغم من جسامة هذه التحديات وتعقيداتها المتشابكة، فإنني أحمل يقينًا راسخًا بأن هذه الإجراءات التعسفية لن تمضي قُدُمًا دون مواجهة حازمة ورد فعل قوي ومدروس. فالأردن -من خلال التنسيق المحكم والاستراتيجي مع السلطة الفلسطينية- سيعمل بكل جهده على حشد موقف عربي موحد وقوي لمواجهة هذه السياسات المدمِّرة، وسيتوجه بعزيمة صلبة إلى الأمم المتحدة والمحاكم الدولية المختصة لاستنفار العدالة الدولية. كما ستكثف الدبلوماسية الأردنية العريقة من جهودها الدؤوبة لحشد موقف دولي رافض وقاطع، وذلك بالتوازي مع استمرار دعمها الثابت والمتواصل للأشقاء الفلسطينيين على امتداد الحدود المشتركة.
والأهم من كل ما تقدم، يتحتم علينا التحرك بخطوات عملية وجادة نحو إيجاد كتلة سكانية كبيرة ومؤثرة في منطقة الأغوار ، بحيث تشكل سدًا بشريًّا منيعًا وحصينًا على حدودنا الغربية، وتعزز من منعة أمننا القومي وتماسكه، وتعيد رسم التوازن الديموغرافي الصحيح في مواجهة مخططات الضم والاستيطان المدروسة والممنهجة.
ولبلوغ هذا الهدف الاستراتيجي الحيوي، لا مناص من اتخاذ قرارات فاعلة ومؤثِّرة تعمل على تشجيع الاستثمار النوعي في المنطقة، وتقديم حزمة من الحوافز الجاذبة والمغرية للانتقال والاستقرار في الأغوار، وذلك من خلال إطلاق مشاريع إسكانية مدعومة ومدروسة، وطرح أراضٍ زراعية خصبة بأسعار مخفضة ومشجعة، وفتح أبواب القروض الزراعية الميسرة على مصاريعها، ودعم الصناعات الخفيفة الواعدة، إضافة إلى اتخاذ قرار استراتيجي بنقل عدد من المؤسسات الحكومية المهمة إلى تلك المنطقة، فبتطبيق هذه السياسات المتكاملة والمتناغمة، يمكن أن تتبلور وتتشكِّل كتلة سكانية أردنية قوية ومُتجذِّرة في مواجهة المستوطنات الصهيونية المنتشرة في الاغوار، كتلة تفوقها عددًا وحضورًا، وترسخ وجودًا وطنيًّا صلبًا وراسخًا على امتداد الحدود المقدسة. ــ الدستور