د. احمد عبد الله النصيرات : «عصر اللا يقين»

في كل جيل، كانت هناك لحظات فاصلة تغيّر مسار الحياة وتعيد تشكيل ملامحها. لكن ما نعيشه اليوم يختلف عن كل ما سبقه؛ فنحن لا نمرّ بتغيّر عابر أو تحوّل تقني محدود، بل نعيش زمناً كاملاً يُعاد تكوينه، وتُعاد فيه صياغة المفاهيم التي كانت تشكّل وجداننا الجمعي.
نعيش زمناً تحكمه السرعة، وتسيّره التقنيات، وتخترقه المستجدات على مدار الساعة، حتى بات من الصعب الإمساك بثوابت الحياة التي طالما كانت تمثل ركائز الأمان والطمأنينة.
إنه «عصر اللا يقين» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عصر لم يغيّر شكل الحياة فحسب، بل امتد تأثيره إلى عمق العلاقات الإنسانية، فزعزع مفاهيم التواصل، وأعاد تعريف القيم الاجتماعية التي تربّينا عليها. فقد تغيّر كل شيء؛ من أسلوب التواصل إلى معاني العلاقات، من طقوس المجاملة إلى مفهوم الأسرة.
أصبح الهاتف المحمول الصديق الأقرب والرفيق الذي لا يفارقنا، وأصبح فقدان الجهاز الذكي كأنه فقدان عزيز! لا غرابة إذن أن تبْهت أهمية اللقاءات الواقعية، وتتحول المعايدات إلى رسائل مقتضبة على تطبيقات الدردشة، والتعازي إلى رموز تعبيرية على منشورات إلكترونية.
تبدّلت منظومة القيم، واختلفت نظرتنا إلى الأمور. لم تعد الأسرة تجتمع إلا نادراً، ولم تعد الجيرة كما كانت؛ مجرد لقاء عابر في المصعد أو تبادل كلام سريع على عتبة الباب. أما مجالس الأجداد مثل «السبلة» و«البرزة» التي كانت منابر للحكايات ومنصات للقاءات الاجتماعية، فقد صارت مجرّد ذكريات.
وزاد الذكاء الاصطناعي من تعقيد الأمور، فأصبحنا نرى صوراً أو فيديوهات لأشخاص قد لا يكونون حقيقيين أصلاً، بل نتاج تقنيات متقدمة. في زمن كهذا، بتنا نشكّ حتى فيما نراه، وصرنا في حيرة من حقيقة ما نلمسه يومياً. كيف لنا أن نثق بما حولنا، إن لم نعد نثق حتى بما تراه أعيننا؟!
وليست المظاهر وحدها ما تغيّر، بل الجوهر كذلك تبدّل. وهذا التبدّل يستدعي وقفة تأمل، لنفهم ما الذي نخسره وسط ما نكسبه، وما الذي يجب أن نتمسك به، ونحن نعبر هذا الزمن الذي يبدو لنا أحياناً بلا ملامح واضحة.
لم تعد القيم الاجتماعية التي نشأنا عليها حاضرة كما كانت، فالتكافل والتآزر باتا مهددين في ظل تراجع الروابط المجتمعية.
قد يقال إن وتيرة الحياة أصبحت أسرع، وإن الالتزامات تزداد، وإن «اللايف ستايل» الحديث لا يتيح وقتاً للتواصل كما كان في السابق.
وهذا صحيح، لكن لا يجب أن يكون مبرراً لذوبان الهوية وتلاشي العلاقات. التقدّم لا يعني أن نفقد ذاكرتنا الجمعية، ولا أن نستبدل الجوهر بالقشور.
وسط هذا المشهد المتغيّر، تبرز الإمارات نموذجاً يُحتذى به في الحفاظ على التراث الاجتماعي والهوية الثقافية، رغم كل مظاهر التحديث والنهضة. فقد حرصت القيادة الرشيدة، على الدوام، على تعزيز قيم الكرم والتراحم والتواصل، عبر فعاليات ثقافية وتراثية تُحيي الروح الإماراتية الأصيلة، وتغرس في النفوس معاني الانتماء والوفاء.
نعم، من الجميل أن نواكب العصر ونكون في طليعة من يصنعون المستقبل، لكن الأجمل أن نفعل ذلك دون أن ننسى من نحن. أن نحمل في أعماقنا تراثنا وقيمنا، وننقله لأبنائنا كما نقله إلينا آباؤنا وأجدادنا.
في عصر اللا يقين، لا بدّ من يقين يُمسك بأيدينا، ومرساة تشدّنا إلى إنسانيتنا .. يقين بأن العلاقات الحقيقية تُبنى بالمواقف .. وبأن الهوية لا تُصنع بالصور والرموز، بل بالممارسات. يقين بأن الإنسان، في نهاية المطاف، ليس بما يملك، بل بما يمنح ويشارك.
فلتكن دعوتنا اليوم: أن نستعيد دفء اللقاء، وصِدق المجاملة، وجمال الروح الإماراتية الأصيلة، في زمن باتت فيه الإنسانية نفسها بحاجة إلى إنقاذ!. ــ البيان