الأخبار

رمزي الغزوي : الخلود الرقمي

رمزي الغزوي : الخلود الرقمي
أخبارنا :  

لم يعد الخلود محض خيال في روايات الخيال العلمي. صار مشروعا علميا يطبخ في مختبرات النخبة، مثل MIT وساسكس، حيث يتسابق العلماء لفك شيفرة العقل البشري وتحويله إلى بيانات قابلة للحفظ والتداول، كما تحفظ ملفات الطقس أو أرشيف الرسائل.
مشروع تحميل الوعي لم يعد نكتة فلسفية ولا رفاهية فكرية. إنه سيناريو واقعي يركض نحونا بأقدام من سيليكون، محملا بوعود براقة: أن نحول الذاكرة، والمشاعر، والهوية إلى رموز رقمية تخزن وتستدعى عند الطلب. وما يبدو كقفزة تقنية تبهر العقول، يخفي وراءه سؤالا فادحا في وحشيته: هل يكفي أن نحاكي وعينا حتى نزعم أننا ما زلنا أحياء؟
نعم، يمكن الآن لخوارزمية أن تستعيد ذكرياتك، أن تكتب رسائل بصوتك، بل وربما أن تبكي عند فراق عزيز. لكن من يكون هذا الذي يبكي؟ أين الذات؟ أين الشعور بالزمن، بالانتظار، بالحنين إلى لحظة لا تعود؟ أين تلك الرعشة الغامضة التي تسبق الحب أو الخوف أو الضحك المباغت؟ نحن لا نتحدث عن تكنولوجيا، بل عن جوهر التجربة الإنسانية.
في عمق هذا السباق، يبدو الإنسان وكأنه يحاول أن ينجو من هشاشته، فيتحول إلى كائن رقمي معقد، بلا جسد، بلا خطأ، بلا ذاكرة حية تؤلم وتعلم. كأن الألم لم يكن يوما شرطا للفهم، وكأن الحنين ليس أحد أوجه الحب.
تذكرنا الرؤية الدينية والفلسفية بأن الوعي ليس ملفا يفتح، بل نفخة، تجربة روحية لا يمكن ضغطها في سعة تخزين، ولا تشغيلها بضغط زر. الروح ليست شيفرة، والزمن ليس مؤقتا رقميا، بل جرح ينزف ببطء ويشكلنا في كل لحظة.
في بحثه عن الخلود، يبدو الإنسان كمن يهرب من الحياة ذاتها. يركض خلف مرآة رقمية تعكس صورته، لكنها لا تبتسم له، ولا تبكي معه، ولا تخطئ باسمه. مجرد نسخة، خالية من البصمة، من الدهشة، من الألم الذي يجعلنا بشرا.
قد نعيش أطول، نعم. وقد نحمل ذكرياتنا في سحابة رقمية ترفرف فوق رؤوسنا. لكن هل نكون نحن؟ أم نصبح مجرد نسخ أنيقة من ذوات لم تعد تعرف كيف تتألم، أو تتوه، أو تعشق؟
ربما نصل يوما إلى تحميل الوعي، لكن السؤال الأخطر سيبقى معلقا كغصة: إلى أين؟ ومن سيكون هناك في الجهة الأخرى؟ وماذا إن كان الانتظار طويلا، والرد فارغا؟ ولربما، في لحظة صدق، ندرك أن الإنسان لا يخلد بالنسخ، بل بالفعل. بكلمة تقال في لحظة خوف. بحب لا ينسخ ولا يعاد تشغيله. بذاكرة تروى من جرح، لا من قاعدة بيانات.
فهل نحن مستعدون لوداع الإنسان؟ أم أننا بحاجة، الآن أكثر من أي وقت مضى، أن نتذكر كيف نكون بشريين، بكل ما في ذلك من ضعف ودهشة وهشاشة وجمال لا يعاد؟ ــ الدستور

مواضيع قد تهمك