الأخبار

حسام الحوراني : الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم وعلم الأورام: المعركة الجديدة ضد السرطان

حسام الحوراني : الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم وعلم الأورام: المعركة الجديدة ضد السرطان
أخبارنا :  

لطالما كان السرطان أحد أكثر التحديات التي واجهت البشرية غموضًا وتهديدًا، مرض لا يفرق بين عمر أو جنس أو حدود، ويضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع هشاشته وضعفه. لعقود طويلة، ظلت أدوات الطب التقليدي تقاوم هذا الخصم المستعصي، في محاولة مستمرة لاحتواء انتشاره، أو فهم ألغازه. ولكن، في عصر التحول الرقمي المتسارع، ظهر شريك غير تقليدي للإنسانية في معركتها مع هذا الداء: الذكاء الاصطناعي. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة في أيدي الأطباء، بل أصبح قوة معرفية هائلة تتغلغل في صميم علم الأورام، قادرة على إحداث قفزات نوعية في التشخيص والعلاج والتنبؤ، بصورة تتجاوز قدرات الإنسان الفردي.
اليوم، تعتمد منظومات الذكاء الاصطناعي على تقنيات متقدمة مثل التعلم العميق، وتحليل البيانات الضخمة، والنماذج التنبؤية التي تتعلم من ملايين الحالات السريرية. يمكن لهذه الخوارزميات أن تكشف عن وجود الأورام، وتحديد درجتها، والتنبؤ بكيفية استجابة الجسم للعلاج، مع مراعاة التفاصيل الدقيقة الخاصة بكل مريض. هذا التحول من «الطب العام» إلى «الطب الدقيق» يعني أن الخطة العلاجية لم تعد موحّدة، بل أصبحت مصمّمة خصيصًا لكل مريض، بناءً على تركيبته الجينية، وتاريخه الطبي، وخصائص الورم الذي يواجهه. في عالم الصور الطبية، أثبتت الخوارزميات أنها قادرة على قراءة أشعة الرنين المغناطيسي، والماموغرام، وصور الأشعة السينية بدقة مذهلة. ففي حين قد يغفل الطبيب البشري تغيرًا دقيقًا في نسيج الصورة، يمكن للذكاء الاصطناعي رصده في أجزاء من الثانية، متسلحًا بقاعدة بيانات من ملايين الحالات المشابهة.
لكن المذهل حقًا هو كيف أصبح الذكاء الاصطناعي يُستخدم في اقتراح بروتوكولات علاجية مُخصصة، تأخذ بعين الاعتبار تفاصيل المريض وظروفه البيولوجية. هذه الخطط العلاجية الذكية لا تسهم فقط في زيادة فاعلية العلاج وتقليل الآثار الجانبية، بل ترفع أيضًا من فرص النجاة، وتمنح المرضى إحساسًا بأن هناك من يفهم معركتهم على المستوى الفردي. في مختبرات الأبحاث الدوائية، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة تسريع لا تُضاهى. من خلال تحليل مركبات كيميائية، ونتائج تجارب سابقة، وأبحاث علمية منشورة، يمكن للخوارزميات اكتشاف جزيئات فعالة جديدة، أو اقتراح إعادة استخدام أدوية قديمة لأغراض جديدة، ما يوفّر وقتًا وجهدًا وتكاليف هائلة في رحلة تطوير علاجات جديدة.
وفي هذا المشهد التحويلي، تلوح في الأفق تكنولوجيا قد تغيّر قواعد اللعبة بالكامل: الحوسبة الكمومية. إن الجمع بين الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم لا يُمثل مجرد تعزيز للقدرة الحسابية، بل هو ولادة لفكر جديد بالكامل. حواسيب الكم تعمل بمنطق مختلف عن الحواسيب التقليدية، فهي قادرة على معالجة احتمالات متعددة في الوقت نفسه، ما يجعلها مثالية لتحليل الأنظمة البيولوجية المعقدة. في علم الأورام، هذا يعني أنه يمكننا محاكاة تفاعلات جزيئات الأدوية مع الخلايا السرطانية على مستوى ذري، في بيئة افتراضية كمومية، تسمح بابتكار أدوية مخصصة بدقة لم تكن ممكنة سابقًا. كما يمكن لهذه الحواسيب أن تُسرّع تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي نفسها، وتحلل ملايين السيناريوهات العلاجية دفعة واحدة، وتُقدم توصيات آنية، أكثر شمولًا وعمقًا من أي وقت مضى.
لكن على الرغم من كل هذا التقدم، فإن إدماج هذه التكنولوجيا في علم الأورام لا يخلو من التحديات. أولها حماية الخصوصية، إذ تعتمد هذه النماذج على بيانات طبية شديدة الحساسية، ما يستوجب وضع تشريعات صارمة وشفافة. كما أن تحيّز البيانات يظل خطرًا حقيقيًا، فالنماذج التي تتعلم من بيانات غير متوازنة قد تنتج عنها قرارات غير دقيقة. والأهم من ذلك كله، تظل الثقة في القرار الطبي البشري عاملًا لا يمكن تجاهله. فرغم دقة الخوارزميات، فإنها لا تمتلك إحساس الطبيب، ولا معرفته بالسياق الإنساني للمريض، ولا قدرته على التفاعل العاطفي. الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا عن الطبيب، بل هو امتداد لذكائه، وشريك في رحلة العلاج.
في منطقتنا العربية، حيث قد تعاني بعض الدول من نقص الكوادر، أو تأخر في التشخيص، تمثل هذه الثورة فرصة ذهبية. يمكننا تسخير هذه الأدوات لسد الفجوات الطبية، وتوفير الرعاية الذكية في المناطق النائية، وبناء بنية تحتية صحية تعتمد على الذكاء لا على الكثافة البشرية وحدها.
اخيرا، نحن لا نتحدث عن مجرد أدوات تكنولوجية، بل عن ثورة معرفية تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمرض، وتمنحنا فرصة جديدة لفهم السرطان، لا كعدو خارجي، بل كلغز يمكن تفكيكه، ومعالجته، وربما الانتصار عليه.
الخوارزمية التي لا تنام قد تكون اليوم الأمل الأذكى في معركتنا الأهم. وحين تجتمع الخوارزميات مع الحوسبة الكمومية، لا تعود مسألة الشفاء مجرد أمنية، بل تصبح مسألة وقت ومسألة قرار.

مواضيع قد تهمك