الأخبار

د. محمد العرب : 2028: عام اختفاء النوم من الحضارات المتقدمة

د. محمد العرب :  2028: عام اختفاء النوم من الحضارات المتقدمة
أخبارنا :  

في العام 2028، ستشهد البشرية تحوّلاً جذرياً لا يمكن التراجع عنه، ليس في السياسة أو الاقتصاد أو البيئة، بل في أحد أكثر أركان الحياة البشرية بدائيةً وطبيعيةً: النوم !
قد يبدو العنوان ضرباً من الخيال العلمي أو نتاج رواية مستقبلية، لكنه في الواقع انعكاس دقيق لما يتجه إليه العالم المُعقّد، حيث تتقاطع تقنيات الذكاء الاصطناعي، والهندسة العصبية، والطب الجزيئي لتخلق كائناً بشرياً جديداً لا ينام ؟
بدأت القصة منذ سنوات حين انطلقت مشاريع متفرقة في وادي السيليكون وميونيخ وطوكيو تهدف إلى تقليص ساعات النوم دون التأثير على الأداء العصبي أو الذهني، مستندة إلى أن الإنسان يقضي ثلث حياته نائماً، وهو ما اعتبره أصحاب التوجهات المستقبلية (تسريباً زمنياً هائلاً) في عالم تحكمه السرعة والتدفق. وبعد سلسلة من التجارب التي دُمج فيها تحفيز العصب المُبهم، واستخدام محفزات كهربائية دقيقة في الدماغ المتوسط، ظهر جيل أول من الأدوية الذكية القادرة على تجاوز الحاجة البيولوجية للنوم واستبدالها بفترات راحة عصبية قصيرة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة.
مع حلول 2028، لم يعد الأمر محصوراً بتجارب مخبرية أو مشاريع تجريبية سرية، بل بدأ تطبيقه على نطاق واسع في الدول الصناعية ذات الأنظمة الصحية المتقدمة، حيث تبنّت الحكومات تقنيات (الاستغناء عن النوم) بوصفها أداة لتعزيز الإنتاجية، وخفض كلفة الرعاية الصحية المرتبطة باضطرابات النوم، وزيادة ساعات العمل الذهني الفعال. استُبدلت غرف النوم بكبسولات استرخاء عصبي، وانتشرت مراكز (التحفيز الكهرو-نومي) في المدن الكبرى، وتحولت البيوت إلى وحدات عمل غير منقطعة. لم يعد الليل يمثل نهايةً لشيء، بل تحول إلى امتداد شفاف للنهار.
الأغرب أن الأجيال الجديدة التي خضعت لهذه التقنيات منذ الطفولة بدأت تُظهر أنماطاً معرفية وسلوكية مغايرة تماماً للبشر الذين عرفناهم لقرون. لم تعد أحلامهم تُسترجع أو تُروى، بل توقفت الظاهرة كلها تقريباً ، اختفى الحنين وقلّ مستوى الخيال، وتراجعت الحاجة للأدب والفن الذي كان يُستمد غالباً من التأمل والشرود والمشاعر التي تتكثف ليلًا. حتى الشعر انخفضت شعبيته بشكل حاد، وصار يُنظر إليه على أنه (ترهل لغوي) لا يتناسب مع عقل نشط على مدار الأربع وعشرين ساعة.
لكن هذا النصر التكنولوجي لن يكن مجانياً فقد بدأت تظهر أعراض جانبية صامتة لا تُدرَج في تقارير الشركات الراعية للتجربة. بعض البشر فقدوا القدرة على التفريق بين الواقع والتصوّر، وبين اللحظة الآنية وبين لحظات متخيلة لا جذور لها. ازداد عدد حالات الانهيار العقلي المفاجئ، ليس بسبب الإرهاق، بل بسبب فائض الوعي. الوعي المتواصل بلا فواصل، بلا انقطاع، بلا لحظة سكون، صار عبئاً ثقيلاً على الدماغ، الذي تطور عبر ملايين السنين ليعمل ضمن إيقاع النوم والاستيقاظ، الظلمة والنور، الحلم واليقظة.
المجتمعات التي فقدت النوم ستفقد شيئاً أكبر مما توقعت: فقدت القدرة على النسيان.
النوم، كما يقول علماء الأعصاب، ليس فقط راحة للجسد، بل وسيلة لتنظيف الذاكرة من الأحداث غير الضرورية. ومع اختفائه، بدأت العقول تحتفظ بكل شيء، تتراكم فيها التفاصيل والأوجاع والقلق والضجيج، حتى صار النسيان ترفاً لا يملكه أحد.
وبينما تعيش الحضارات المتقدمة على وقع (الاستيقاظ الأبدي) بدأت الدول الأقل تطوراً تحتفظ بنمطها التقليدي، بنومها الطويل، وأحلامها الشعبية، وأغانيها الليلية، فصار العالم منقسماً لا على أساس التكنولوجيا أو الثروة، بل على أساس الزمن البيولوجي نفسه. الإنسان الذي لا ينام صار ينظر لبقية البشر على أنهم كائنات متأخرة، بينما يردّ أولئك البسطاء: (أنتم لم تتطوروا أنتم فقط فقدتم القدرة على الحلم)
ربما سيُكتب مستقبلاً: في العام 2028، لم تختفِ فقط الحاجة البيولوجية للنوم، بل اختفت معها براءة الليل، وصار العالم أكثر نشاطاً لكنه أقل إنسانية.

مواضيع قد تهمك