أ. د. محمد عبده حتاملة : الرؤية والممارسة في الهوية العبرانية في فلسطين

الحلقة التاسعة
ومما زاد من استقلال يهود بابل عن بقية الجماعات اليهودية في فلسطين أو خارجها، أن اليهود، حتى عام 333 ق. م، كانوا يعيشون داخل إطار امبراطورية واحدة يدورون في فلكها ويستمدون هويتهم منها، وهي الإمبراطورية الفارسية. أما بعد ذلك فقد كان الجيب البابلي يدور في فلك فارسي (أخميني ثم فرثي ثم ساساني)، بينما كان يهود فلسطين والبحر الأبيض المتوسط يدورون في فلك هيليني ثم روماني. وقد واكب ظهور الجماعات اليهودية خارج فلسطين تفتت الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين. فقد شهد العصر الهيليني، خصوصا في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، تخلخلا في الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين (في الرؤية والممارسة) من المنظرين الديني والقومي لأسباب عديدة:
·أدى تسامح الحضارة الهيلينية، وجاذبيتها الشديدة، واستعدادها للاعتراف بأي يهودي على أنه هيليني، متى أجاد اللغة اليونانية ومارس أسلوب الحياة الرومانية، إلى انجذاب العبرانيين اليهود (في بلدان البحر الأبيض المتوسط ومن بينها فلسطين) بأعداد متزايدة إلى تلك الحضارة، وإلى تبنيهم طرق تفكيرها وزيها واحتفالاتها، وفي نهاية الأمر لغتها. وسمح للعبرانيين اليهود الذين طرحوا هويتهم جانبا بأن يصبحوا مواطنين يونانيين تماما. أما بقية أعضاء الجماعة اليهودية الذين احتفظوا بعقيدتهم، فلم يكتسبوا المواطنة اليونانية لعدم استطاعتهم المشاركة الكاملة في نشاطات المدينة، إذ كانت الحياة في المدينة تدور حول العبادة اليونانية الوثنية. وكانت القيادة اليهودية في فلسطين ذاتها مصطبغة بالصبغة الإغريقية، الأمر الذي أدى إلى نشوب الثورة الحشمونية ضد السلوقي. ولكن القيادة الحشمونية ما لبثت، هي ذاتها، أن أصبحت إغريقية بعد استيلائها على الحكم، واصطعنت أسماء إغريقية مثل: أنتيجون والإسكندر.
·لم تكن الهوية العبرانية اليهودية داخل فلسطين ذاتها محددة بشكل صارم، حيث كانت تعيش في فلسطين أعداد كبيرة من أقليات غير يهودية (يونانيون وفينيقيون وبقايا الفلستين وبقايا الأقوام السامية). ويتضح عدم التحدد في فرض الملوك الحشمونيين اليهودية بالقوة، إذ فرضت بالقوة على الأدوميين (في شرق الأردن) وعلى الإيطوريين (في الجليل). وكان هيرود أو هيرودس الأول ملك اليهود (37 ق م – 4 م) من أصل أدومي، وكان هؤلاء المتهودون يشكلون هوية جديدة أيضا.
·كانت اليهودية، كنسق ديني، تخوض تحولات عميقة في تلك المرحلة، نتيجة احتكاكها بالفكر الهيليني وانتشار اليهود في حوض البحر الأبيض المتوسط. وظهرت فرق يهودية كثيرة من بينها الصدوقيون (من طائفة الكهنة) الذين كانوا لا يؤمنون باليوم الآخر، والأسينيون (من أبناء الشعب) الذين كانوا يحيون حياة تقشف ورهبنة. بالإضافة إلى الفريسيين (من أبناء الطبقة الوسطى أساسا) الذين كانوا يؤمنون باليوم الآخر، وإليهم يرجع الفضل في إعادة صياغة اليهودية، وهو ما جعلهم أهم هذه الفرق. كما كان هناك أبناء الطبقات الثرية المتأغرقون، فضلا عن الفرق الشعبية المتطرفة مثل الغيورين (قنائيم)، وعصبة الخناجر (سيكاري)، وكتاب «كتب الرؤى» (أبوكاليبس)، وكتاب «الكتب الخفمي» (أبوكريفا). وكان لكل فريق رؤيته وعقيدته، ومن ثم، كانت كلمة «يهودي» في تلك المرحلة التاريخية، تضم تعريفات كثيرة متضاربة الأمر الذي زاد من خلخلة الهوية على مستوى الرؤية والممارسة.
·وفي هذا الإطار، طرح الفريسيون رؤية جديدة للهوية تحررها من المفهوم القديم المرتبط بالمجتمع القبلي العبراني أو المجتمع الزراعي الملكي، أو المجتمع الكهنوتي المرتبط بالهيكل والعبادة القربانية.
·فأعيد تعريف الهوية بحيث أصبحت أساسا هوية دينية روحية ذات بعد إثني متقلص، ليس بالضرورة قوميا متضخما، وهي علاوة على هذا غير مرتبطة بالهيكل. وواكب هذا التعريف الجديد استعداد للتصالح مع الدولة الحاكمة أو القوة العظمى في المنطقة، وعدم الاكتراث بنوعيتها ما دامت لا تتدخل في حياة اليهود الدينية، وقام الفريسيون بنشاط تبشيري خارج فلسطين، الأمر الذي يفسر زيادة عدد اليهود في الإمبراطورية الرومانية في تلك المرحلة.
· وشهدت تلك المرحلة صداما بين الإمبراطورية الرومانية والقيادات الشعبية العبرانية اليهودية في فلسطين، التي أجهدت دفع الضرائب للإمبراطور، فاندلعت الثورة في صفوفها. وعارض الصدوقيون والفريسيون التمرد ضد الرومان، ولم يكترث أعضاء الجماعة اليهودية في بابل به. ووقفت بعض المدن ذات الأغلبية اليهودية الواضحة، مثل صفد وطبرية، موقف التأييد من الرومان. وانضم اليهود المتأغرقون إلى الرومان وحاربوا في صفوفهم. فكان هناك جيش يهودي تحت قيادة (أجريبا الثاني) أثناء حصار القدس، وكانت أخته (بيرنيكي) هي عشيقة القائد الروماني تيتوس. وكانت جهود الرومان موجهة لإخماد التمرد وحسب، وليس للقضاء على اليهودية كدين أو على اليهود كإثنوس أو قوم (كما تزعم التواريخ الصهيونية أو المتأثرة بها).
·وفي هذه المرحلة، ازداد انتشار الجماعات اليهودية في العالم نتيجة الهجرة من فلسطين والتهود، بحيث أصبح عدد اليهود المقيمين في خارج فلسطين يفوق عدد المقيمين فيها، وكما بينا، كانت أعداد متزايدة من يهود فلسطين تفقد صبغتها العبرانية لتكتسب صبغة هيلينية. أما خارجها، فقد نسي يهود حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا سيما في مصر، العبرية تماما، وتمت ترجمة العهد القديم إلى اليونانية (الترجمة السبعينية) بتشجيع من البطالمة حتى يفهم يهود مصر معانيه. وبتشجيع منهم أيضاـ تم تشييد هيكل في مصر، وهو هيكل أونياس، الذي شيده اليهودي أونياس الرابع في عهد بطليموس السادس (181-145 ق م) بالقرب من هليبوليس، (يسمى موقعه الحالي تل اليهودية)، وذلك حتى يستقلوا عن هيكل القدس، ويبتعدوا عن نفوذ السلوقيين، وحتى يمكن الاستفادة منهم كجماعة وظيفية، مقاتلة وسيطة، وهو ما كان يعني ظهور هوية يهودية في مصر الهيلينية مستقلة عن الهوية اليهودية في فلسطين.