د محمد العزة يكتب : الدولة الأردنية العميقة بين الخيال و الحقيقة.

د محمد العزة
"الدولة العميقة (Deep state) أو الدولة المتجذرة و هو مفهوم شائع افتراضي يستخدم لوصف أجهزة حكم غير منتخبة تساهم بصناعة قرار الدولة ، وقد تتكون الدولة العميقة من مجموعة من الأشخاص غير المنتخبين الذين ينتمون إلى هياكل رسمية و غير رسمية لها مصالحها الواسعة و امتداداتها في الداخل والخارج."
أعلاه هو التعريف الأكاديمي السياسي و المعنى الحرفي العام لموضوع لم اشأ ان انهي صياغة عنوان مقاله بأشارة سؤال حتى لا أطلق شرارة فتح المجال و العنان لبوابة الخيال عند رواد التعجب و الاجتهاد في الرد بأسلوب التعليق السلبي أو تعدد الإجابات و التأويلات البعيدة كل البعد عن اساليب التفسير الحقيقي و الفهم الصحيح له أو القصد وراء الكتابة حوله ، لذا تم ختمه بنقطة اخر السطر ، لنظهر عدم التردد و نحن في سنة 2025 نعيش بدفء شمس مرحلة التحديث الذي يتيح الكتابة أو مناقشة موضوع حول مصطلح لهيكل مؤسسي حقيقي يوجد في الواقع من الناحية التطبيقية العملية داخل أركان الحياة السياسية الأردنية و على كل الاصعدة و المستويات لمؤسسات السلطة الحكومية و المدنية و الاجتماعية العشائرية و الشعبية ، وهو أيضا مصطلح تستخدمه الطبقة السياسية في الإشارة للجهة المؤثرة داخل أركان هذه المنظومة التي شاركت في صناعة القرار وأظهرت مدى نفوذها و مستوى تأثيرها في تحديد المسار الذي يفضل السير فيه و تطبيقه داخل القطاع أو المجال المستهدف. تتعزز الإشارة لتلك الجهة عند ربط عوائد النتائج و المخرجات والانجازات و تقيمها سلبا أو إيجابا، و تحديد مرجعية المسؤولية عنها، من حيث الأثر الملموس خاصة إذا ما تعلقت تلك القرارات داخل نطاق الفعاليات السياسية الديمقراطية ، كإصدار التشريعات و التعليمات الناظمة الضابطة لهندسة الحياة السياسية و أسس تشكيل الاحزاب أو المؤسسات المنتخبة مثل مجالس النواب والبلديات و اللامركزية و غرف التجارة و غيرها و ما تأتي به صناديق الانتخاب .
بالنسبة للطبقة الشعبية في الشارع الأردني فأنها تؤمن أنها حقيقة لكنها تعبر بالاشارة لها من خلال الصورة التي تشكلت داخل وعيها استنادا لما جاء في المروي و المحكي عنه الصادر عن الفئة المثقفة أو متصنعة الثقافة منها التي رسمت تصورا و هالة من الرهبة حولها قد تكون رغبة من تلك الفئة للحفاظ على تصنيفها من ضمن فئة المرضي عنهم و أن التوجه نحو الحديث عن بعض العناوين هو من المحرمات و وجب التحفظ عليه تحت بند المسكوت عنه ، من ظل الشارع يتعامل مع بعض العناوين بصوت الهمس و إشارة الهمز وخاصة إذا ما كانت القرارات تتعلق بأمور الخدمات الحياتية و المطالب الشعبية و مدى إثرها على الطبقة الاجتماعية التي تم أستهدفها و الانحياز لها غنية ام فقيرة ، وهذا ما انعكس سلبا في فهم دور الدولة الأردنية العميقة إيجابا و لعل هذا هو الدافع من وراء شرح ضرورة وجودها و بيان ثوابتها الوطنية و صفات شخصياتها و صلاحياتهم و نفوذهم في تحقيق الأهداف حسب الاختصاص بم يخدم الحالة و المصلحة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأردنية.
الدولة الأردنية العميقة عاصرت جميع مراحل عمر الدولة الأردنية التاريخية وهذا يدل على مدنية و تقدمية الدولة الأردنية من عهد التأسيس للإمارة إلى الملكية بمراحلها الى يومنا هذا، حيث مارست عبر تاريخها و شخصياتها أدوارا وطنية مفصلية واكب تطورها تطور الدولة ، و اتسع دور اختصاصها ، و تنوعت أدواتها و اشكال هياكلها في موازات تلبية احتياجات الدولة من إنشاء قطاعات في مختلف المجالات.
الجدير بالذكر أن دور الدولة الأردنية العميقة يمكن رصده و ذكر تطور هياكلها فكريا و مؤسسيا من خلال أربعة مراحل.
المراحل الثلاث الأولى من عهد الإمارة مرورا باستقلال المملكة ولغاية اوائل الألفية شكلت العشائر و القوى السياسية الحزبية و النقابية والجيش و الأجهزة الأمنية فيها نواة اساس بناء هذه المؤسسة و اسهمت بادوار كبيرة من اعلان الاستقلال و حماية السيادة و كتابة الدستور و التشريعات الي وضعت حجر الأساس لمختلف مؤسسات الدولة الحكومية والمدنية و العسكرية و الأجهزة الأمنية و مختلف القطاعات الاقتصادية التجارية و الصناعية الخاصة .
شارك في تأسيس أركان هذه المؤسسة نخبة من أبناء المجتمع الوطني الأردني أصحاب الخبرة و القدرات الفكرية السياسية الحزبية و الثقافية المجتمعية كان دورها يتجلى في تقديم التوصيات لضمان و استقرار النظام السياسي و الأمني و متابعة مشاريع التنمية و البناء للمؤسسات التي ازدهرت وكانت حقبة النضوج للبنية التحتية لجميع أساسات و قطاعات الدولة الأردنية ، و شهدت تحولات سياسية ديمقراطية تباينت في مظاهرها و ظهورها بين الحضور و الغياب بشكل متقطع ، لكنها شهدت في عهدها عودة قوية في أواخر الثمانينات و اوائل التسعينات ، لتشكل النقابات المهنية و القوى السياسية جزءا من هندسة البناء للدولة العميقة بالإضافة لباقي القوى والعناصر الأخرى .
الدولة العميقة في المرحلة الرابعة التي تمتد من منتصف الألفية ولغاية يومنا هذا طرأ عليها تغيرات على مستوى عناصر مكوناتها و خاصة مع بدء التفكير في منتصف التسعينات الاتجاه نحو مشاريع التحول الاقتصادي ، حيث برز دور العامل الاقتصادي ممثلا بقوى رأس المال في الدخول و التدخل كأحد العناصر و اللاعبين الجدد في التشكيلة الأساسية لهذه المؤسسة مع تراجع دور النقابات المهنية و الأحزاب السياسية ، مع حفاظ مؤسسة العرش والمؤسسة العسكرية و الأمنية على موقعها داخلها بل تعززت حيث أنها تشكل صمام الأمان للدولة و الوطن و الشعب و الضامن لالتزام جميع من هو في داخل هذه المنظومة من شخصيات و مؤسسات و تنظيمات بعدم تجاوز حدودها أو إلغاء كينونة أحدها للآخر و التغول عليها .
دخول القوى الاقتصادية على المشهد السياسي الأردني اوضح فروق جوهرية شملت ابعاد على أكثر من مستوى ما بين الدولة الأردنية العميقة في الماضي ممثلة في مراحلها الثلاث و مابين الدولة الأردنية العميقة الحالية .
ابرز الفروقات تجلت على مستوى البعد السياسي و الانتماء الفكر الحزبي و العشائري و التنظيمي و نهج الاقتصاد السياسي الرعوي الاشتراكي لشخصيات الدولة العميقة في المراحل الثلاث ، و الرأسمالية الليبرالية في الرابعة حيث تركزت سيطرة القوى الاقتصادية و ذهبت باتجاه سياسية برامج السوق الرأسمالية الليبرالية دون تبني اي لون أو فكر سياسي مع رفع شعارات برامج اقتصاد الدولة الإنتاجية التي لم تطبق أو تنفذ منها إلا القليل مع غياب الحزبية البرامجية التعددية السياسية داخل الوزارات وتكريس الأحادية و الرمزية لعلها إحدى أخطاء سمات النهج الليبرالي بالرغم أن شخصيات المرحلة الحالية هم امتداد للشيفرة الوراثية من المراحل الثلاث الماضية، و لتوضيح الاختلاف و الفرق مابين الجيلين افضل مثال هو الفرق مابين نموذج الزراعة الأرضية و الزراعة المعلقة ،في الأول كان يتطلب العمل من الميدان و الحرث داخل الأرض و غرز الجذور و نثر البذور لجميع المنتجات الزراعية ، في الثاني حيث التقنية و الحداثة و الاعتماد على المكنكة و التركيز على نوعية معينة محصورة تناسب هذه التقنية فقط .
البعد الفكري و الاجتماعي لعب دور أيضا في إيجاد اختلافات تحولت إلى فجوة انعكست سلبا على الأداء حيث شخصيات المرحلة الماضية كانوا طبعة و نسخة اولى اورجينال بيروقراطية الوانها مزيج من جميع الوان الطيف الاردني الاجتماعي العشائري والسياسي الفكري الاردني ، منحتهم الدولة الأردنية فرصة التدريب و التدرج و اكسبتهم الخبرة في العمل الإداري الحكومي و الوصول إلى المستوى القيادي وهذا ما أتاح لهم البقاء لفترة أطول داخل أروقة السلطة التنفيذية و التشريعية ، الأمر الذي ارهقهم حتى نفاذ كل طاقاتهم و تقديمهم كل ما يمكن تقديمه مع الاحتفاظ بميزة انهم خميرة الخبرة و ذخيرة المشورة.
اختلاف البيئة و تطور تكنولوجيا الادوات في الإدارة و مصادرها الغربية كانت حاضنة النشأة و التعليم لأغلبية جيل الدولة العميقة الحالية خاصة طبقة رجال الأعمال ، و دفع نحو تبني نمط لأساليب و نماذج غربية صنفت بوصفة غريبة في التعامل و معالجة ملفات الشأن الداخلي خاصة الاقتصادي و اعتمادها كما هي دون دراسة أو تحليل ، أدى إلى تأخر و أحداث فجوة في اتخاذ قرار التنوع و إدخال نظريات و عناصر مواد بناء جديدة لنموذج فكر عقل الإدارة الحكومة الحزبية البرامجية و أدواتها السياسية و الاقتصادية المناسبة ، تحت عنوان حوارية إدارة الأجيال الكلاسيك البيروقراط ، والحداثة وما بعدها التكنوقراط ، و هو أمر محبب و ليس بغريب على الاردن لكن كان ينقصه معرفة كيفية ربط الجذور بالسيقان ، و الامعان و التروي أكثر في أحداث التغيرات على نهج التحديث الإداري و كان الاجدى في التدرج ضمن جدول زمني و الالتزام بالوقت الذي يحقق المعاني و الاهداف و الانسجام مابين أطراف الحوار داخل الدولة الأردنية العميقة في المؤيتين ، لضمان التناغم و قيام بناء صلب القوام بعيدا عن الاصطدام الذي وقع في فترة من الفترات و سبب تأخير التوصل الى نموذج من النهج يحقق المزج او التوافق و الإجماع عليه ، بالرغم أنه متوفر و يتمثل في الديمقراطية الاجتماعية و نظرياتها الاقتصادية و السياسية.
ختاما الدولة الأردنية العميقة حقيقة و اجمالا شكلت دورا إيجابيا كبيرا في الحفاظ على توازن أداء الأفراد و المؤسسات و حماية الوطن لتأتي اليوم و الذهاب نحو خيار مرحلة التحديث و البرامجية الحزبية المؤسسية لوضع ترتيب للملفات حسب الأولويات موثقة ببنود و خطوات و إجراءات قانونية و تقنية هي نواة خطة عمل يتم السير عليها و مرجعية لتقيم مستوى التقدم في مراحل الانجاز فيها ، وهذا ليس باعجاز بل هي ابجديات في علوم و فنون الإدارة التي تعكس عبقرية القيادة في صناعة أداة تقييم معيارية مقارنة ما بين الضعيف وصولا إلى درجة التميز و الابتكار .
اجتراح نموذج خاص للدولة الأردنية العميقة داخل إطار المؤسسية الرسمية و التشاركية مع المؤسسة الحزبية البرامجية في دراسة القرار و وتقديم التوصية بالاعتماد على الكفاءة والخبرة داخل مواقع المسؤولية فيه من الإيجابية و توفير سعة و قدرا أكبر على التحمل لاعباءها و ضغوطها ، ويعمل على الانتقال بها من شكل التنظيم أو شبكات الأفراد الذي يغلب عليه طابع الفردية السلبية الحالية و يمكنها من السير على نهج الرؤية الملكية المستقبلية للتحديث حيث قوامها الفخر بالتراث و الموروث و التطلع إلى التعزيز و التجديد و التجدد و التمدد لنكتب عنها بقلم فكره مستمد من الوان علم و راية دولة اردنية قوية قيادة و شعبا .