بشار جرار : جهاز كاشف السر لا الستر

حدث حافل بالأخبار ذلك الذي قررت وزيرة الأمن الوطني في أمريكا نيوم كرِستي (تلفظ نوم) الكشف عنه، ألا وهو إخضاع موظفين في الوزارة إلى جهاز كشف الكذب، إثر إلقاء القبض على اثنين من العاملين -خانا الأمانة- تم ضبطهما بالجرم المشهود خلال تسريب معلومات عن خطط الوزارة الرامية إلى مداهمة مدن فيها مهاجرون غير شرعيين، جميعهم ممن صدرت أحكام قضائية قطعية بحقهم.
ثمة جدية يدركها الجميع -داخليا وخارجيا- في الحرص على تطبيق الوعد الانتخابي الرئاسي، بطرد جميع المهاجرين غير القانونيين، بدء بالمجرمين الخطرين وعلى نحو خاص من ذوي الأسبقيات، سيما أولئك الذين تم ترحيلهم من قبلُ، وفي بعض الحالات، أكثر من مرة.
كنت قد أمضيت بضع سنين في مدينة بضواحي واشنطن العاصمة تعتبر إحدى «مدن الملاذ»! ملاذ للمقيمين بشكل غير قانوني في أمريكا لا لمحدودي الدخل في ولاية فيرجينيا مثلا. لو عرفت ذلك ما سكنت تلك المدينة المعروفة باستضافة إحدى الجامعات الأمريكية المرموقة، الشهيرة عالميا. المشكلة في اليسار المتطرف الذي تغوّل حتى على السلطات الاتحادية وعلى مستوى الولاية. تتمثل المشكلة في وضع ما يشبه التوصيات «الإنسانية» والاستثناءات القانونية المخالفة لروح القانون بل والدستور أيضا. باسم الإنسانية والتعاطف مع الهاربين من نظم القمع أو التنظيمات السياسية المسلحة أو العصابية الإجرامية، أو مجرد الحق في السعي إلى حياة أفضل، يتم انتهاك سيادة الدولة وتقويض أركان الأمن والنظام. ليس سرا أن تلك المدن المسماة «سانكتشوِري سيتيز» يربو عددها على مائة وسبعين مدينة، تضاف إليها نحو ستمائة من مناطق الملاذ الآمن، يقدّر عدد كل واحدة منها بسبعمائة ألف مقيم غير قانوني، بحسب إحصاءات جرت قبل ست سنوات على مستوى الولايات المتحدة الخمسين.
القضية أمنية اقتصادية اجتماعية. اقتصاديا لا يدفع أولئك الضرائب، في حين يحصل الكثير منهم بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر القانون أو الاحتيال، على معونات تزيد من عجز الموازنة والعبء الضريبي على المواطنين الأمريكيين. أما التحدي الأكبر، فوجود نسبة كبيرة من مخالفي القانون بنسب متفاوتة، وكذلك عدم معرفة نسبة لا يستهان بها بالإنجليزية، والأخطر انعزال لا بل ومعاداة البعض للثقافة الأمريكية والقيم والقوانين التي انصهر في بوتقتها جميع الأمريكيين على اختلاف موروثهم الوطني وهي التسمية المعتمدة بدلا من الإشارة إلى الوطن الأصلي أو الخلفيات الإثنية عرقيا أو دينيا للمهاجرين.
لطالما سألني -بشكل أخوي وأحيانا مهني- أصدقاء وجيران وزملاء حول هذا الملف، ملف المهاجرين المندمجين في البلاد التي تستضيفهم والتي قد تصير وطنهم الثاني، عن سبب «الباطنية» لدى البعض، أتراها «تقية»؟! والإجابة من الناحية المنطقية معروفة، عندما تكون الزيارة، الإقامة، المواطنة بالاختيار الحر فحينها الأمر يصير ميثاقا، عهدا يصل إلى أداء القسم، سواء عند نيل الجنسية أو شرف الخدمة، خاصة في الأماكن الحساسة كوزارة الأمن الوطني، والدفاع والخارجية وربما أجهزة إنفاذ القانون، عالية التدقيق الأمني «إكسترييم فِتِنْغْ»..
الأمر لا يتطلب دائما جهازا كاشفا للكذب، فالجوارح مهما حاولت بعض النفوس المريضة التلاعب بها وتزييفها، لا بد كاشفة للكذب والستر معا. هكذا تعمل الآن، الخارجية الأمريكية في مراجعة تأشيرات الطلبة الذين فضحتهم منشوراتهم على منصات التواصل الاجتماعي. بصرف النظر عن الموقف من بعض الحالات هنا وهناك، فإن الأمر بالغ الخطورة وقد تشكل أمريكا نموذجا لدول أخرى تعاني من هذه المشكلة-المعضلة تحديدا.
الشعار الذهبي-الماسي هو: وطن لا تحبه وتفديه لا تستحق البقاء فيه وقطعا كذلك شرف حمل جنسيته. علّها فرصة لجردة حساب، لهزة غربال بعد شد خيوطه جيدا بالطول والعرض. فالتراخي أو التستر على مثل أولئك الخونة، خيانة للأمانة، لا مجرد إساءة لتقدير موقف أو تصريف الأمور.