الأخبار

صالح سليم الحموري يكتب : الاقتصاد العاطفي للحكومات

صالح سليم الحموري يكتب : الاقتصاد العاطفي للحكومات
أخبارنا :  

في عالم يتحرك بسرعة فائقة، حيث تتسارع التحولات السياسية والاقتصادية، ظهرت قناعة جديدة بين قادة العالم مفادها أن النجاح لا يتحقق فقط عبر الخطط الاستراتيجية والميزانيات المحكمة، بل أيضًا عبر فهم المشاعر الجمعية للأفراد والمجتمعات، والتفاعل معها بحكمة وذكاء. هذا ما يمكن تسميته بـ "الاقتصاد العاطفي للحكومات"، حيث لم يعد المواطن مجرد رقم في معادلة النمو الاقتصادي، بل كيانًا إنسانيًا تحدد مشاعره ومدى إحساسه بالعدالة والطمأنينة انتماءه لوطنه، واستعداده للتعاون مع قيادته في مواجهة التحديات.

لطالما اعتقدنا أن "الحكم الرشيد" يعتمد على "المنطق والقرارات المستندة إلى البيانات"، لكن الأحداث المتسارعة كشفت أن "القرار الحكومي الأكثر ذكاءً هو الذي يراعي المشاعر الجماعية"، ويحتوي المخاوف، ويخلق الأمل. في تقرير صادر عن مؤسسة جالوب خلال القمة العالمية للحكومات لعام 2025، تم تحليل تجارب 50 دولة لفهم العوامل التي تجعل المواطنين يثقون بحكوماتهم، وكانت النتيجة واضحة: الحكومات الناجحة ليست بالضرورة الأغنى أو الأكثر تقدمًا تكنولوجيًا، لكنها الأكثر قدرة على بناء "الأمل، وترسيخ الاستقرار، وتعزيز التعاطف، وبناء الثقة".

عندما يشعر المواطن أن حكومته تحمل له رؤية مستقبلية واضحة، يصبح أكثر استعدادًا للمشاركة الإيجابية. وعندما يجد في حكومته تعاطفًا مع تحدياته، فإنه يكون أكثر تقبلًا لإجراءاتها، حتى لو كانت صعبة. أما الثقة، فهي العملة الذهبية التي لا يمكن لأي حكومة أن تزدهر بدونها، لأنها ببساطة تحدد مدى استجابة المواطنين للقرارات والقوانين، خاصة في أوقات الأزمات.

قد يبدو الحديث عن المشاعر في السياسة نوعًا من الرومانسية الزائدة، لكن الواقع يُثبت أن "الحكومات التي تفشل في إدارة المشاعر العامة قد تواجه أزمات أعنف من تلك الناتجة عن الأوضاع الاقتصادية المتعثرة.” فعلى سبيل المثال، عندما فرضت بعض الحكومات "إجراءات تقشفية صارمة" دون مراعاة التأثير النفسي على مواطنيها، اندلعت احتجاجات واسعة، وتحولت المشاعر الغاضبة إلى رفض سياسي كامل. في المقابل، هناك دول استطاعت أن "تمرر نفس السياسات الاقتصادية القاسية، لكنها فعلت ذلك بأسلوب يراعي إحساس المواطنين بالأمان والعدالة، مما جعلهم أكثر استعدادًا للقبول والمشاركة في الحلول.”

إن الفرق بين النجاح والفشل هنا لا يكمن فقط في نوعية القرارات الاقتصادية، بل في "الطريقة التي تم تقديمها بها، واللغة التي خُوطب بها الناس، والشعور الذي تَرَكَته الحكومة في نفوس مواطنيها." المواطن ليس آلة حسابية تتفاعل فقط مع الأرقام، بل هو كائن اجتماعي عاطفي يحتاج إلى رسائل طمأنة، ومشاركة حقيقية، وإحساس بأنه جزء من مشروع وطني أكبر.

مع التطور الهائل في "الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة"، لم يعد قياس المشاعر العامة مهمة صعبة. اليوم، يمكن للحكومات أن تتابع نبض شعوبها من خلال أدوات متقدمة قادرة على "تحليل وسائل التواصل الاجتماعي، واستطلاعات الرأي الفورية، وفهم نبرة الحوار العام" لمعرفة مدى رضا أو غضب المواطنين تجاه سياسات معينة. أكثر من ذلك، أصبح بالإمكان تطوير "نماذج تنبؤية قادرة على استشراف ردود الفعل المجتمعية قبل حدوثها، مما يتيح اتخاذ تدابير استباقية تمنع الأزمات قبل وقوعها.”

لكن تظل المشكلة الأساسية في أن العديد من الحكومات تنظر إلى البيانات على أنها "مجرد أرقام جامدة"، في حين أن البيانات الحقيقية هي تلك التي تُفسر المشاعر، وتُترجم إلى قرارات تحافظ على استقرار المجتمعات.

الاقتصاد العاطفي ليس مجرد توجه عابر، بل يمكن "تحويله إلى سياسات حكومية متكاملة" من خلال عدة إجراءات جوهرية. يمكن البدء بإعادة تصميم الخدمات الحكومية بحيث تكون "أكثر إنسانية وأقل بيروقراطية"، فالمواطن عندما يشعر أن الحكومة "تفهم احتياجاته وتعاملها بمرونة وتعاطف، يكون أكثر استعدادًا للتعاون.”

كما يمكن تدريب الموظفين الحكوميين على "الذكاء العاطفي والتواصل الفعّال"، بحيث لا تكون القرارات الإدارية مجرد أوامر جافة، بل تحمل بُعدًا إنسانيًا يراعي خصوصية كل حالة. إضافة إلى ذلك، فإن تعزيز "الشفافية وإشراك المواطنين في صنع القرار" عبر المنصات الرقمية والحوار المفتوح، يجعل الناس يشعرون بأنهم جزء من المعادلة، وليسوا مجرد متلقين سلبيين للقرارات.

في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة، لم يعد كافيًا أن تبني الحكومات اقتصادًا قويًا، بل "عليها أن تبني مجتمعات قوية نفسيًا وعاطفيًا" الحكومات التي تستثمر في بناء "الأمل والثقة والاستقرار والتعاطف" لن تكون فقط أكثر قدرة على التكيف مع الأزمات، بل ستكون أيضًا الأقدر على تحقيق "استدامة مجتمعية حقيقية".

يقول دانيال كانيمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وصاحب نظرية الاقتصاد السلوكي "الناس لا يتخذون قراراتهم بناءً على الحقائق فقط، بل بناءً على الطريقة التي تجعلهم هذه الحقائق يشعرون بها ." وهذه الحقيقة يجب أن تكون أساسًا لكل حكومة ترغب في كسب قلوب مواطنيها قبل عقولهم.

في النهاية، الحكومة الناجحة ليست فقط التي "تحسن إدارة الاقتصاد والموارد"، بل التي "تحسن إدارة العواطف والمشاعر". فالقادة العظماء هم الذين يدركون أن "كل قرار اقتصادي يحمل في جوهره بعدًا إنسانيًا وعاطفيًا"، وأن الثقة لا تُبنى بالقرارات وحدها، بل بالتواصل الصادق، والاستماع الحقيقي، والاهتمام العميق بتطلعات المواطنين.

* صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية

مواضيع قد تهمك