أ. د. محمد عبده حتاملة : الحالة العقلية الانعزالية عند اليهود

الحلقة الثامنة
تخبئ الحالة العقلية الانعزالية أحيانا معدلات عالية من الاندماج في المجتمع، فهم يحتفظون بقدر من الاستقلال عن محيطهم الحضاري، ولكنهم يكتسبون سماتهم ورؤيتهم لأنفسهم ولغيرهم من محيطهم الحضاري (شأنهم في هذا شأن أعضاء الجنس البشري كافة) وذلك رغم استقلالهم عن هذا المحيط، فهويتهم (الوظيفية) اليهودية لا تتحدد من خارج التشكيل الحضاري الذي ينتمون إليه أو رغما عنه، وإنما نت خلاله ومن داخله وبسبب تفاعلهم معه. وفي الحقيقة، لا يعود تفرد الهوية اليهودية في أي مجتمع إلى تفرد العناصر التي تكون الهوية، وإنما تعود إلى وجودها مجتمعة. كما أن حركيات المجتمع الذي يعيشون فيه يمكن أن تفسر هذا الاختلاف. وهذه التركيبة المزدوجة (قدر من العزلة الفعلية والعقلية مع قدر من الاندماج الفعلي) هي التركيبة المثلى للجماعة الوظيفية. فثمة ضرورة لقدر من الاندماج لأنهم يتعاملون يوميا مع أعضاء المجتمع ويتحركون داخله وبحسب قواعده، ولكن ثمة ضرورة أيضا لقدر من العزلة لضمان الحياد واستمرار العلاقة التعاقدية بين أعضاء الجماعة الوظيفية وأعضاء المجتمع المضيف، أي أن التركيبة المزدوجة تضمن أن يظل أعضاء الجماعة الوظيفية في المجتمع دون أن يكونوا منه.
وأولى الجماعات الوظيفية اليهودية التي ظهرت خارج فلسطين هي الحامية العبرانية في جزيرة إلفنتاين (جزيرة في النيل قرب أسوان)، التي وطنها فراعنة مصر هناك (في أسوان) كجماعة وظيفية استيطانية قتالية لحماية حدود مصر الجنوبية. وقد فقد هؤلاء علاقتهم بفلسطين، ونسوا شعائر دينهم أو ربما احتفظوا ببعض العناصر الوثنية من العبادة الإسرائيلية واختلطوا بالمحيط المصري. فعندما أراد الفرس استخدامهم كجماعة وظيفية قتالية تابعة لهم ضد المجتمع المصري، أرسل الإمبراطور الفارسي رسالة يشرح لهم فيها طقوس عيد الفصح، ليؤكد هويتهم اليهودية ويضمن عزلتهم عن محيطهم المصري، ومن ثم ولاءهم. يرى بعض المؤرخين أن هوية هؤلاء اليهودية أو حتى العبرانية أمر مشكوك فيه، فقد كانوا يتحدثون الآرامية، كما كانت عبادتهم مشوبة بعناصر وثنية عديدة. ويمكن القول أيضا بأن الجماعة العبرانية في مصر، قبل خروجها منها، كانت جماعة وظيفية، فقد عمل يوسف مديرا لمخازن فرعون، كما كان يضطلع بالأعمال المالية.
أما أهم هذه الجماعات فهي الجماعة اليهودية في بابل التي رفضت العودة إلى فلسطين (فيما عدا قلة صغيرة). وقد بدأ أعضاء هذه الجماعة في الاشتغال بالتجارة والربا والانصراف عن الزراعة والتركز في المدن، أي أنهم تحولوا بالتدرج إلى جماعة وظيفية وسيطة تجارية ومالية ونسوا العبرية. وقد كان لهذا التجمع اليهودي علماؤه ومدارسه الدينية وتوجهه الثقافي الذي أخذ يزداد قوة واستقلالا، حتى أصبح في مرحلة من المراحل مركز اليهودية الأساسي في العالم. ويتضح تفتت الهوية اليهودية في ظهور المفهوم الديني القائل بأن شريعة الدولة هي الشريعة التي يجب أن يتبعها اليهودي في حياته العامة، أي أن نطاق الشريعة اليهودية تم تقليصه بحيث أصبح مقصورا على حياة اليهود الدينية الخاصة وتعاملاتهم فيما بينهم، ولا يضم حياة اليهود العامة أو القومية. وأصبحت اليهودية (على مستوى الممارسة) دينا، وتحول الجانب القومي فيها إلى مجرد رموز وتطلعات دينية، وانتماء إثني يضمن للجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية العزلة اللازمة لها. وهذا هو المبدأ الذي لا يزال سائدا بين أعضاء الجماعات اليهودية رغم كل الادعاءات.