الأخبار

د. احمد يعقوب مجدوبة : المُفردة الغائبة

د. احمد يعقوب مجدوبة : المُفردة الغائبة
أخبارنا :  

لعقود، كانت إحدى أهم الغايات في مجتمعنا إنتاج المثقف. والمجتمع كان يُقدّر «المثقف» أيما تقدير، بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجغرافية.

والمثقف تمتّع بمكانة واحترام عابرين لحقول المعرفة والتخصصات والمهن والشرائح المجتمعية.

أما اليوم فالمثقف شبه غائب، لا بل إنّ بعضهم يتحدث عن «موت» المثقف؛ وصار مجتمعنا غير معني به، وحلّ مكانه أفراد بمسميات عديدة يجدهم الناس مسلّين أو مضحكين أو مثيرين الاهتمام؛ لكنهم لا يأخذون عنهم شيئاً لسطحية أو إشكالية ما يطرحون.

غاب المثقف اليوم ولم يسدّ مكانه أحد. وهذه خسارة كبرى؛ فالعديد من المجتمعات ما زال للمثقف دور بارز فيها.

وفي السنوات المشار إليها عنى المثقف الشيء الكثير. فهو المُمتلك للمعارف الرصينة من عدّة حقول، الإنسانية منها، ثم العلمية. ومعارفه جمعت بين الأصالة والحداثة؛ وهي عابرة للتخصصات وتهمّ الكثير من الأفراد الذين أقبلوا عليها بنَهم.

كان المثقف ممتلكاً لمهارات التواصل، موضوعاً ولغة وأسلوباً ورونقاً. وكان متسلحاً بمهارات التذكّر والتحليل والتفكير الناقد والتذوق. وكان واعياً مُمحّصاً المعلومة ومُدقّقا فيها قبل الأخذ بها والتعبير عنها. وكان مُدركاً للماضي ومستشرفاً للمستقبل، وفاعلاً في الحاضر. وارتبط مفهوم المثقف عموماً بحسن المعشر والخلق.

وكان منتمياً لمجتمعه وحضارته ومقدّراً للثقافات العالمية ومنفتحاً عليها.

اليوم، مع الأسف، لم نعد حتى نسمع بعبارة «مثقف»، سوى في سياقات ضيقة. عموم الناس نسوا العبارة، أو كادوا. وعند التحدث في ندواتنا ومؤتمراتنا وورشنا لا نكاد نشير للأمر. ويكاد المفهوم أن يكون قد فُقد من خطابنا المعاصر برمّته.

ونظامنا التعليمي، على مستوييه المدرسي والعالي، لم يعد من أولوياته المعلنة إنتاج المثقف، رغم أن الأدبيات التربوية تشير إلى ذلك.

أصبح معظم الخبراء والمهتمين في التعليم يركزون على ربط التعليم بحاجات السوق، وعلى ضرورة أن يمتلك الطلبة المهارات التي تساعدهم على إيجاد وظيفة.

وهذا أمر حسن، فهنالك إشكالية في شهادة لا تفضي إلى وظيفة.

الإشكال ليس في المبدأ، بل في التطبيق: كيف بالضبط يُعدّ التعليم الطلبة للسوق في ضوء أن السوق واسعٌ وسع المحيطات؟ وهي «أسواق» لا «سوق». كيف نُحدد للطالب السوق الذي يلتحق به في ضوء تنوع الأسواق وتعدد المهن؟ ولو افترضنا أننا حددنا سوقاً بعينه، فهل نضمن وجود فرص عمل فيه في ضوء المتغيرات والفرص الشّحيحة؟

وهنالك حديث عن أن الفرد سيغيّر مهنته عدة مرات في حياته. فلأي مهنة نعدّه؟

الواضح في الخطاب السائد أن التعليم يجب أن يُكسب الطالب المهارات العابرة للتخصصات التي يمكن أن يجد فرصة عمل من خلالها، بغض النظر عن شهادته أو تخصصه.

لا بأس.

لكن طرحنا هنا أننا لو اعتمدنا مبدأ تخريج المثقف كهدف، فيمكننا أن نُعد طلبتنا أفضل لسوق العمل، لأن المثقف من العمق في امتلاك المعارف والمهارات والقيم والأخلاق والسمات الشخصية، والقدرة على التكيف، بحيث ينافس أفضل على إيجاد الفرص والاحتفاظ بالوظائف والترقي فيها. فالثقافة كهدف أوسع وأقرب إلى حاجات الفرد والسوق والمجتمع من مجرد المهارة.

من هنا نرثي غياب مُفردة «المثقف"؛ ومن هنا تأتي ضرورة إحيائها ووضعها كهدف. ــ الراي

مواضيع قد تهمك