الأخبار

اسماعيل الشريف يكتب : أحاول أن أنسى

اسماعيل الشريف يكتب : أحاول أن أنسى
أخبارنا :  

فالنسيان ليس هروبًا من الألم، بل هو وسيلة للتعايش معه جبران خليل جبران.
توقفت الإبادة الجماعية، ولكن هناك مشاهد قد نُقشت في عقلي وقلبي كجمرٍ مشتعل يلتهمني.
أحاول أن أنسى الأطفال الذين غطتهم الأتربة والجروح، فقد رأيت في أعينهم رعبًا لم أشاهده من قبل، وأجسادهم الهشة ترتجف. صرخاتهم الصامتة تُخنق في حناجرهم وتطن في أذنيّ كلما حاولت أن أنام.
أحاول أن أنسى تلك الأم التي كانت تتنفس الألم، تصرخ بجنون فوق جثمان ابنها الذي مات جوعًا. وكأن صرخاتها كانت محاولة يائسة لإحياء القلب بشري الذي توقف عن النبض.
أحاول أن أنسى ذلك الأب الذي انحنى أمام جسد ابنه الشهيد، يقدم له بيد مرتعشة قطعًا من البسكويت كان قد طلبه قبل أيام. عيناه غارقتان في بحر من الدموع، يحاول استعادة تلك اللحظة التي سرقها منه الجيش المجرم.
أحاول أن أنسى أمهاتي وأخواتي اللواتي انتهكت أرواحهن قبل أجسادهن بوحشية أعادتنا إلى عصور المغول والصليبيين. صرخاتهن انطلقت من أعماق القهر لا الخوف، بينما كانت تُجرى لهن العمليات القيصرية دون تخدير، وكأنهن مجرد أجساد بلا أرواح، بلا مشاعر، وبلا ألم.
أحاول أن أنسى ذلك الطفل الصغير الذي فقد كل شيء، يقف وحيدًا وسط الركام، يبكي بصوت مبحوح، ويسأل ببراءة قاسية: «أين العرب؟ أين المسلمون؟» كان سؤاله كسيف يشق صدر أمة قد ماتت.
أحاول أن أنسى إخوتي وأخواتي الذين عانوا من آلام لا يمكن وصفها، بينما كانت أطرافهم تُبتر دون تخدير، وأصواتهم تحرق سماء عواصمنا دون مجيب.
أحاول أن أنسى ذلك الرجل الذي جلس وسط الأنقاض، يحتضن دمية دب، وهي كل ما تبقى له من عائلته.
أحاول أن أنسى تلك الشاحنات التي كانت تحمل يومًا «الآيس كريم»، لكنها محملة بالجثث، تجوب الشوارع حاملة برودة الموت، بل برودة قلب الإنسانية. ولا أستطيع أن أنسى ذلك الجد العجوز الذي كان يهمس لأحفاده الشهداء برسالة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، قائلاً: «أخبروا رسول الله أن أمته قد خذلتنا.» كانت كلماته طعنة في قلب كل من بقي لديه ضمير.
أحاول أن أنسى تلك الفتاة الصغيرة التي استشهدت وهي تحاول، بكل ما تبقى لديها من قوة، أن تحمل قناع الأكسجين لأخيها. تضحية تعجز عن وصفها أقوى الكلمات وأعمق الأقلام.
ولا أستطيع أن أنسى جيش الاحتلال الإسرائيلي وهو يقتل النساء أمام أعين أطفالهن، ويطلق الكلاب لتنهش أجساد البشر بوحشية وبرودة دم لا توصف.

بقية مقال إسماعيل الشريف
أحاول أن أنسى

ولا أنسى الدبابات الإسرائيلية التي مزقت شوارع رفح، تدهس الأمل والأرواح بلا تمييز. ولا أستطيع أن أنسى القوات الإسرائيلية وهي تفتح النار على الحشود، في محاولة لإخماد كل ذرة من الحياة، وكل بقايا من الإنسانية.
ولكن، فوق كل ذلك، لا أستطيع أن أنسى المشاهد التي تحولت فيها غزة إلى جحيم، حيث قُطعت رؤوس الأطفال وسالت الدماء كالأنهار. تلك الأيام ستظل بقعًا سوداء في تاريخ البشرية.
ولن أنسى تلك الشركات الكبرى والتجار الخونة الذين ساعدوا الاحتلال في استمرار مجزرته. ولن أنسى تلك الدول والمنظمات التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، المرأة، الطفل، والحيوان، لكنها آثرت الصمت، فكان صمتها موافقة ضمنية على القتل.
ولن أنسى الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وهم يدعمون الإبادة الجماعية، ولا الذين وقفوا على الحياد.
هذه المشاهد وآلاف غيرها ستظل أوزارًا نحملها لبقية حياتنا، بانتظار يوم الحساب أمام الجبار العليم. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك