الأخبار

اسماعيل الشريف يكتب : الإبادة الجماعية للصحفيين

اسماعيل الشريف يكتب : الإبادة الجماعية للصحفيين
أخبارنا :  

«اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح، فغسان بقلمه كان يشكل خطرًا على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي»، جولدا مائير.
قُدِّر لابنة هرم بن سنان أن تقابل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. كان والدها هرم سيدًا جليلاً في قبيلة بني ذبيان، اشتهر مع صديقه الحارث بن عوف بمسعاهما النبيل في إنهاء الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان. تحمل الرجلان دفع ديات القتلى، ونجحا في نشر السلام بين قبائل غطفان، مما دفع الشاعر الكبير زهير بن أبي سلمى إلى تخليد هذا الموقف النبيل في قصائد خالدة، فكافأه هرم بعطايا سخية.
وفي مجلس عمر، دار حوار عميق المغزى حين سأل أمير المؤمنين ابنة هرم عن عطايا والدها للشاعر زهير. فأجابت بأن والدها منح زهيرًا مالاً وأثاثًا، لكن الزمن قد أفنى تلك العطايا المادية. فرد عمر بحكمة بالغة قائلاً: «لكن ما منحه زهير لأبيك من شعر خالد وذكر طيب، لا يمكن للزمن أن يمحوه ولا للعصور أن تطويه!».
أما في عصرنا الحالي، فقد شهد العالم مأساة إنسانية مروعة في غزة، حيث تجاوزت جرائم الاحتلال الصهيوني كل الحدود في استهداف المدنيين الفلسطينيين من مختلف الفئات والتخصصات. وفي تقرير صادم للأمم المتحدة، تم توثيق استشهاد 204 صحفيين في غزة خلال أربعة عشر شهرًا فقط، وهو رقم يفوق بشكل مذهل عدد الصحفيين الذين فقدوا حياتهم في الحرب العالمية الثانية، الذين بلغ عددهم 69 صحفيًّا، رغم أن تلك الحرب كانت الأضخم في التاريخ البشري، حيث أودت بحياة نحو 85 مليون شخص، أي ما يعادل 3% من سكان العالم آنذاك، وامتدت على ربع مساحة الكرة الأرضية.
وقد وصف تقرير الأمم المتحدة المخاطر التي يواجهها الصحفيون في غزة بأنها غير مسبوقة في تاريخ النزاعات المعاصرة، مما يؤكد حجم المأساة الإنسانية والانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الإعلاميون في سعيهم لنقل الحقيقة للعالم.
في مأساة تكشف عجز القانون الدولي، لم تستطع بروتوكولات جنيف ولا المواثيق الدولية والإنسانية أن توفر الحماية للصحفيين، تمامًا كما عجزت عن حماية أطفال غزة ونسائها من آلة الحرب الصهيونية.
وفي تجلٍ صارخ لحقيقة الاستهداف المنهجي، نرى أن غسان كنفاني وشيرين أبو عاقلة و204 صحفيين، إلى جانب الشعراء والكتاب الذين اغتالهم الصهاينة، كانوا جميعًا شخصيات مدنية بعيدة كل البعد عن صورة «الإرهابي» التي يحاول الاحتلال إلصاقها بضحاياه. فها هو غسان، المثقف اليساري الوسيم الذي تزوج من امرأة أجنبية، وأثرى المكتبة العربية بثماني روايات و1000 مقالة، وإلى جانبه زميله المسيحي الشاعر كمال ناصر، يقفان شاهدين على زيف الرواية الصهيونية.
إن السر يكمن في قوة الكلمة، تلك القوة التي تفوق في تأثيرها الدبابات والصواريخ والطائرات في أي معركة. فرغم نجاح الصهاينة في تحقيق انتصارات عسكرية واحتلال الأراضي، إلا أنهم فشلوا فشلًا ذريعًا في هزيمة الرواية الفلسطينية التي ظلت حية في ضمير الإنسانية.
وعبر التاريخ الإنساني، ساد اعتقاد بأن الحروب تُحسم بالسيوف والرماح والطائرات والقنابل والرصاص، لكن الحقيقة أن هذه مجرد أدوات. أما المعارك الحقيقية فهي معارك الأفكار والأيديولوجيات. ولنا في انتشار الإسلام في معظم أنحاء العالم دون حروب، وفي هيمنة أمريكا على كثير من الدول عبر «الحلم الأمريكي» خير دليل على هذه الحقيقة.
لذلك، فإن استهداف الصهاينة للصحفيين والأدباء ليس إلا محاولة يائسة لقتل الكلمة، إدراكًا منهم لقوتها التي تفوق قوة كل الجيوش مجتمعة.
والأخطر من ذلك كله أن جرائم قتل الصحفيين تمر دون عقاب، فتقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن 85% من هذه الجرائم لا تلقى عقابًا. ويؤكد البرلمان الأوروبي هذه الحقيقة المؤلمة؛ حيث كشف أنه بين عامي 2002 و2021، أفلت مرتكبو 97% من جرائم قتل الصحفيين حول العالم من العقاب كليًّا أو جزئيًّا. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديدًا، سُجلت 47 حالة إفلات تام من العقاب من أصل 226 حالة قتل، بينما بقيت 175 حالة دون أي معلومات، مسجلة بذلك أعلى نسبة إفلات من العقاب على مستوى العالم.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الإحصائيات المفزعة تسبق أحداث طوفان الأقصى، ومنذ ذلك الحين، شهدت الأرقام ارتفاعًا مهولاً، خاصةً في غزة التي شهدت سقوط ما يزيد عن 75% من إجمالي الوفيات بين الصحفيين على مستوى العالم.
على مدار أشهر طويلة من الإبادة الجماعية، حظي الكيان الصهيوني بدعم غربي صارخ، حيث تبنت الدول الغربية الرواية الصهيونية بشكل أعمى، مروجة لادعاءات مضللة عن حرق الأطفال واغتصاب النساء، متعمدة التعتيم على جرائم الاحتلال الحقيقية. غير أن استمرار المجازر وتدفق الحقائق الدامغة إلى الشعوب الغربية كسر حاجز التعتيم الإعلامي، مما أدى إلى تحول تدريجي في المواقف الأوروبية، في حين واصلت الولايات المتحدة دعمها المطلق للكيان الصهيوني حتى النهاية.
ويتحمل المجتمع الدولي بمؤسساته وهيئاته مسؤولية جسيمة في إفلات الصهاينة من المحاسبة والعقاب، وتجاهلهم المتعمد للتعاون مع المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومراسلون بلا حدود. ولعل اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة يمثل نموذجًا صارخًا لهذا الإفلات من العقاب، فرغم وضوح جريمة القتل المتعمد بالرصاص المباشر، ورغم الدعوات الدولية الواسعة للمحاسبة، لم يتم تقديم أي من المتورطين للعدالة، مما رسخ مبدًا خطيرًا يضع الكيان الصهيوني فوق القانون الدولي.
وفي ضوء هذه الحقائق المؤلمة، نوجه نداءً عاجلاً إلى نقابة الصحفيين وأعضائها الذين يمثلون الصوت المهني في المحافل الدولية والمنظمات الصحفية العالمية، للتحرك الفوري على مسارين: الأول، العمل الحثيث لمحاسبة الاحتلال على جرائمه المتواصلة، والثاني، الضغط من أجل تصنيف استهداف الصحفيين كعمل إرهابي بموجب القانون الدولي، بما يضمن حماية حقيقية للصحفيين ويضع حدًّا لسياسة الإفلات من العقاب. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك