د . علي النحلة الحياصات يكتب : الهوية الوطنية بين خطاب النُخب ومجتمع يبحث عن ذاته

تشكلت الدولة الاردنية الحديثة قبل أن يتشكل شعبها بشكلة وبسماته وخصائصة الحالية، لذا بقيت الهوية الوطنية مشروعًا مؤجَّلًا، لا معطى ناجزًا تطور مع تطور الدولة. منذ نشأتها الحديثة، بُنيت الدولة الأردنية على توليفة تاريخية معقدة، كان فيها التداخل مع القضية الفلسطينية، بحكم الجغرافيا والديمغرافيا ، من اهم محركاتها السياسية ، وبمرور الوقت، أصبح هذا التداخل أكثر تعقيدًا من أن يُحتوى بخطاب وحدوي أو يُعالج بمحاضرات سياسية او ثقافية.
في محاضرته الأخيرة، تحدث رئيس الوزراء الأسبق عبدالرؤوف الروابدة عن الهوية الوطنية الأردنية، محذرًا من "تغييب الأردنية" في الخطابات السياسية، ومن مخاطر الحديث عن هوية وطنية جامعة منزوعة الخصوصية. لكن الخطاب الذي قُدّم، رغم نواياه الحامية للهوية الوطنية ولغتة الرزينة والعميقة، لم يخرج عن كونه إعادة إنتاج لسردية قديمة تُحمّل المواطن مسؤولية شعوره بالغربة داخل وطنه، بدلًا من مساءلة البنى التي تنتج هذا الشعور أصلاً.
الهوية، ببساطة، لا تُفرض ولا تُلقَّن. إنها تتشكّل في عمق التجربة اليومية للمواطن: في شعوره بالكرامة، بعدالة الفرص، بتمثيله في مؤسسات القرار، وباعتراف الدولة والمجتمع به كاملًا، لا منقوصًا ولا معلّقًا على أصل أو منطقة.
رغم أن الأردنيين من أصول فلسطينية يتمتعون بكافة الحقوق القانونية، إلا إن الواقع الاجتماعي والسياسي لا يعكس هذه المساواة. الكثير منهم يشعر أن "الرقم الوطني" لا يعني أكثر من تصريح إقامة محسَّن، لا جواز انتماء. يتلقّى المواطن الحقوق نفسها على الورق، لكنه يُقاس في المجتمع بمقاييس أخرى: من أي المخيمات جاء؟ من أي مدينة في الضفة؟ هل يشمله الحديث حين نقول "الأردني الأصيل" مثلا؟
الإشكال ليس قانونيًا ولا إداريًا، بل وجداني عميق: هناك هوة نفسية بين الدولة والمجتمع من جهة، وبين جزء من مواطنيها من جهة أخرى، تُنتجها التمثلات الثقافية، والتمييز الاجتماعي الصامت، ونقص الحضور الطبيعي في مفاصل القرار السياسي والاداري.
الخطأ الذي يقع فيه كثير من الكٌتاب والمتحدثين عن "الهوية الوطنية الجامعة" هو افتراض أن هذه الهوية تُبنى بالتجاوز القسري للفروقات، بينما الواقع يقول إن المجتمعات لا تندمج إلا بعد أن تّعرّف نفسها أولًا وتتقبلها الدولة وتصهرها في داخلها ثانيا.
ما يحتاجه الأردنيون اليوم ليس "لغة وطنية" موحدة فُرضت من فوق، بل عقدًا وطنيًا جديدًا يعترف بتنوعهم، ويضمن تمثيلهم، ويخلق سردية وطنية لا تُقصي أحدًا ولا تُفرّق بين من عبر نهر الأردن مشيًا ومن وُلد على ضفته الشرقية.
النخب السياسية، في الغالب، تتحدث عن الهوية بوصفها ملفًا قابلًا للضبط والتنظيم. لكن في الشارع، الأمر مختلف تمامًا. هناك أردنيون كُثر يشعرون أن تمثيلهم لا يكتمل، وأن انتماءهم للوطن ما زال موضوعًا مشروطًا، وليس شعورًا تلقائيًا.
الهوية الوطنية لا تُبنى فقط في قاعات المحاضرات، بل في الشارع، والمدرسة، والجامعة، والمناصب العامة، وفي الإحساس الجمعي بالعدالة والاحترام المتبادل. إنها نتاج التجربة اليومية، لا تعريف دستوري ولا شعار وطني.
إذا أردنا فعلاً أن نبني هوية وطنية جامعة، فالسؤال ليس "من هو الأردني؟" بل: "ما معنى أن تكون أردنيًا؟"هل يعني أن تُمنح فرصة دون أن تُسأل عن أصلك؟ أن تخدم وطنك دون أن تشعر بأنك في اختبار دائم لإثبات ولائك؟ أن تكون شريكًا حقيقيا في السردية الوطنية، لا متلقيًا لها؟
كل هذا يبدأ من الاعتراف بوجود فجوة حقيقية بين الخطاب الرسمي وواقع شعور الناس. وما لم يُفتح هذا الملف بجرأة، فسنبقى ندور في حلقة مفرغة من الشعارات التي لا تترجم إلى شعور حقيقي بالانتماء.
بالنتيجية، الهوية ليست خٌطبا ومحاضرات، ولا وثيقة. الهوية هي شعور عميق بالانتماء إلى مستقبل مشترك. وما لم يشعر الجميع أنهم داخل هذا المستقبل، فإن الحديث عن "الهوية الجامعة" سيظل وصفة مؤجلة.