إعلام المستقبل بين اللهاث للحاق بالتكنولوجيا المتسارعة ومخاطر الأخبار المضللة والزائفة

تقف الأجيال الشابة حائرة في هذا العصر بين محاولتها اللاهثة للحاق بإعلام
المستقبل وما يواكبه من تسارع تكنولوجي لنقل الواقع والحقيقة إلى جمهور
المتلقين، وبين مخاطر هذه التكنولوجيا وما يرافقها من تحديات الأخبار
المضللة والزائفة التي تتطلب مواجهتها بالسبل كافة لدرء مخاطرها.
وكالة
الأنباء الأردنية (بترا) طرحت تساؤلات عديدة لمتخصصين في الإعلام الرقمي
والسياسة والقانون والتربية حول المقبل من إعلام المستقبل وما ينتظره
الشباب في مجتمعاتنا، وكيفية مواجهة كل هذا التقدم وتسخيره بما يخدم
الإنسانية والمجتمع.
وبدأ الأردن مبكرا في التعامل مع إعلام المستقبل
وتحصين الشباب ببرنامج متكامل يحمل اسم "التربية الإعلامية والمعلوماتية"،
بالإضافة إلى تشريعات قانونية تضمن الوعي وحماية المجتمع من الإشاعات
والأخبار المضللة والزائفة.
وفي تقارير مرصد مصداقية الإعلام الأردني
(أكيد)، تبين أن ألفا و26 إشاعة من أصل ألف و170 إشاعة في آخر 15 شهرا
انتشرت في الأردن كان مصدرها منصات النشر العلنية التي تشمل وسائل التواصل
الاجتماعي، وهي أحد أنواع إعلام المستقبل التي يشترك فيها غالبية الشباب،
ورافق هذا الرقم انتشار خطابات كراهية وعنصرية، لكن الأردن واجه ذلك بوضع
أساس تشريعي يحتكم إليه، وهو قانون الجرائم الإلكترونية الذي يمنع بث
خطابات الكراهية والعنصرية والتفرقة بين الناس، وبما يحمي حق الناس في
التعبير بعيدا عن انتهاك الكرامة وحقوق الإنسان.
ونشرت وسائل إعلام 137
إشاعة من أصل 1170 إشاعة في آخر 15 شهرا، الأمر الذي حذر منه متخصصون في
أحاديثهم لــــــ(بترا) بإن إعلام المستقبل بكل أنواعه أصبح أداة في كثير
من الأحيان لبث السلبية والفوضى وتضليل الرأي العام وانتهاك الحرمات، ما
يستدعي إيجاد حلول وقائية وتشريعية صارمة وجادة لمواجهة كل ذلك.
محكمة
صلح جزاء عمان ولأول مرة عرفت الخبر الكاذب وفق القانون مستندة إلى أسس
فقهية تشريعية وقواعد قانونية راسخة، وأن تجريم الأخبار الكاذبة قائم على
أسباب معينة يرجع فيها المشرع إلى عنصرين أساسين، وهما التأثير السلبي على
الأمن الوطني والسلم المجتمعي، والتجاوز لحدود ممارسة الحق المقرر بمقتضى
أحكام القانون، وهذان العنصران لا يؤثران على حرية الرأي والتعبير المكرس
في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وفي المادة
15 من الدستور الأردني.
ويشير مفهوم السلم المجتمعي بحسب المحكمة
نفسها، إلى حالة السلم والوئام داخل المجتمع، وأما مفهوم الأمن الوطني فهو
استخدام الوسائل للمحافظة على سير حياة المجتمع بمكوناته كافة بصورة صحيحة
بعيدا عن الأزمات والإشاعات التي تؤثر على أمن المجتمع، ويعتبر كلا
المفهومين من المفاهيم التي تخضع لتقدير قاضي الموضوع ويرتبط هذا التقدير
بفحوى العبارات التي جرى نشرها وزمانها ومكانها.
مصطلح "الأخبار
الكاذبة" متعدد المعاني وعرفته منظمة اليونسكو بأنه "المحاولات المتعمدة
المخطط لها بعناية لإرباك أشخاص أو التلاعب بهم عبر تقديم معلومات كاذبة
عنهم، بغرض المساس بسمعتهم ومصالحهم"، وأن الفقه الجنائي وضع تعريفات
لجريمة بث الأخبار والإشاعات الكاذبة، حيث عرفها أغلـب الفقـه بأنها "رواية
عن أمر أو حدث أو شخص بأسلوب يروى أو يذاع، فهو نوع من الخبر غير المؤكد،
ويريد قائله أو مذيعه لفت النظر إلى تأكيده وعلم الناس به".
التشريع
الأردني يعرف مصطلح الأخبار الكاذبة في قانون العقوبات في المادة 132،
والتي نصت على أنه "كل أردني يذيع في الخارج، وهو على بينة من الأمر أنباء
كاذبة أو مبالغا فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها".
ونصت
المادة 15/أ من قانون الجرائم الإلكترونية رقم (17) لسنة 2023 على أنه
يعاقب كل من قام قصدا بإرسال أو إعادة إرسال أو نشر بيانات أو معلومات عن
طريق الشبكة المعلوماتية أو تقنية المعلومات أو نظام المعلومات أو الموقع
الإلكتروني أو منصات التواصل الاجتماعي تنطوي على أخبار كاذبة تستهدف الأمن
الوطني والسلم المجتمعي أو ذم أو قدح أو تحقير أي شخص بالحبس مدة لا تقل
عن ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تقل عن 5 آلاف دينار، ولا تزيد على 20 ألف
دينار أو بكلتا هاتين العقوبتين.
وقرر الأردن مواجهة الأخطار الناجمة
عن إعلام المستقبل على الشباب عبر نشر التربية الإعلامية بصفتها مطعوم
وقاية ضد وباء المعلومات، حيث حدد نظام التنظيم الاداري لوزارة الاتصال
الحكومي رقم 65 لسنة 2022 بأن نشر التربية الإعلامية والمعلوماتية هو أحد
مهام وبرامج الوزارة.
وتقول وزارة الاتصال إن التربية الإعلامية
والمعلوماتية يجري تنفيذها بالتعاون مع وزارات التربية والتعليم، والتعليم
العالي والبحث العلمي، والشباب، والثقافة، والمركز الوطني لتطوير المناهج
ومعهد الإعلام الأردني، ومؤسسات المجتمع المدني، والنظام التعليمي الوطني
والمجتمعات الشبابية والهيئات الثقافية وفعاليات الحياة العامة.
وتشكل
فريق متابعة لمشروع التربية الإعلامية والمعلوماتية برئاسة وزير الاتصال
الحكومي، والأمناء العامين للوزارت المتعاونة، حيث تهدف الخطة التنفيذية
لبرنامج التربية الإعلامية إلى تطوير برنامج عمل لتحسين قدرة المجتمع في
التعامل مع مصادر المعلومات والأخبار، وأدوات التكنولوجيا الرقمية، كما
تهدف المبادرة إلى الانتقال من النظرة السائدة حول التربية الإعلامية كأداة
للحماية والدفاع إلى فهم أعمق وأشمل، بوصفها أداة للتمكين والمشاركة
والابتكار.
يقول وزير الاتصال الحكومي السابق الدكتور مهند مبيضين لـ
(بترا) إن هناك تحديات كبيرة أمام الشباب فيما يتعلق بإعلام المستقبل، وأن
الأمر يتعلق بتوفير الإمكانات الكافية للجميع، لكنها الآن غير متوفرة على
أرض الواقع، ما يعني أن الحاجة ماسة للحصول على فرص تدريبية وتعليمية كافية
في هذا المجال.
وأضاف "لا يوجد اليوم صف ثان قادر على التدريب في هذا
المجال، وبين هذا الصف والإعلام الجديد فجوة كبيرة، وهناك محاولات لبعض
المنصات لمواكبة الإعلام الجديد، ومحاولات لاختراق فاعل من قبل وسائل
الإعلام للإعلام الجديد وما زالت بنية الإعلام التقليدي هي المسيطرة".
استاذة
القانون والخبيرة في التشريع والإعلام الدكتورة نهلا المومني بينت أن
الإعلام الجديد وتعامل فئة الشباب معه يعد من المواضيع التي تتطلب وضع رؤية
شمولية تضمن التوازن بين مواجهة التحديات الناشئة عنه، وفي الوقت ذاته
ضمان الاستفادة من ايجابياته من قبل هذه الفئة.
وأضافت إن هذا الأمر
يقتضي البدء بوضع سياسة عامة واضحة المعالم تحدد أطر هذا الاعلام، والآليات
اللازمة للتعامل مع معطياته، وقد تأتي هذه السياسة في إطار وضع استراتيجية
وطنية تحكم الإطار الناظم للإعلام بأشكاله كافة، والنهوض به وتوفير المناخ
الإعلامي اللازم وصولا إلى إعلام حر ومسؤول في الوقت ذاته.
وأشارت
المومني إلى أن الحاجة تبدو ملحة لدراسة المنظومة القانونية الوطنية ذات
العلاقة بالإعلام في إطار مصفوفة تشريعية متكاملة تضمن ازالة التعارض
ومعالجة الثغرات القائمة ومراعاة الدستور الأردني والمعايير الدولية لحقوق
الانسان، خاصة أن المنظومة القانونية الوطنية تتضمن تأطير وتنظيم جزئي فيما
يتعلق بهذا الأمر حيث يوجد مجموعة من التشريعات التي تضمنت تنظيما يتعلق
بمواجهة التحديات التي قد يفرزها هذا الإعلام سواء قانون الجرائم
الإلكترونية وقانون حماية البيانات الشخصية بما في ذلك حماية الحق في
الخصوصية ومواجهة الأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية.
وأكدت أن الحماية ذات
العلاقة بالذكاء الاصطناعي واستخدامه في الإعلام الجديد ما زالت حماية
محدودة، وهو الأمر ذاته في الدول العربية التي ما تزال الحماية فيها غير
شمولية، فيما نجد على سبيل المثال أن الاتحاد الأوروبي أصدر ميثاقا متكاملا
للذكاء الاصطناعي، في حين أن الدول العربية لم تضع تشريعا متكاملا، ولكن
جرى وضع استراتيجيات وطنية في بعض الدول؛ مثل الأردن الذي وضع الاستراتيجية
الأردنية للذكاء الاصطناعي، وكذلك الحال في مصر والإمارات وقطر والسعودية،
وهي خطوات جيدة وصولا للحماية المتكاملة.
وقالت المومني "وفي الوقت
ذاته لا بد من العمل على محور تمكين الشباب في مواجهة الإعلام الجديد، ما
يتطلب رفع قدرات الشباب في مجال التربية المعلوماتية ورفع الوعي الرقمي
والسلامة الرقمية لديهم، وهذا يقتضي التوسع في إدخال هذه المفاهيم في إطار
تطبيقي في المناهج الدراسية، بالإضافة إلى تمكين الشباب قانونيا لمعرفة
التحديات التي قد تنجم من هذا الإعلام وتشكل جرائم بحكم القانون.
استاذة علم الاجتماع في الجامعة الأردنية الدكتورة ميساء الرواشدة فككت سلوك إعلام المستقبل وتأثيره على الشباب.
وقالت
إن الإعلام الرقمي أو ما يطلق عليه بالإعلام الجديد أصبح واقعا لا يمكن
تجاهله خاصة بعد انتشار الوسائل التقنية التي تتميز بسهولة الاستخدام
والتطور، فأصبح الشباب قادرين على صناعة المحتوى الرقمي بسهولة من خلال
الموبايل وهذا جعل كل من يرغب من الشباب قادرا على أن يتقمص دور الإعلامي
والصحفي وهنا تكمن الخطورة بقلة الخبرة والوعي في التعامل مع الإعلام
الجديد، وهي التي قد تؤثر بشكل سلبي على المجتمع.
وأضافت إن ذلك قد يسبب
إثارة النعرات الطائفية والعنصرية ونشر الشائعات والإساءة والتشهير
بالآخرين؛ لذا لا بد من العمل على توعية الشباب بمخاطر الإعلام الرقمي سواء
كانوا مرسلين أو مستقبلين للرسالة، فالتأثير الذي يمكن أن يحدثه الإعلام
الرقمي على توجهات الشباب وآرائهم قد يكون أخطر من تأثير الإعلام الجماهيري
أو يسمى الآن الإعلام التقليدي.
ولفتت الرواشدة إلى أنه يجب على
الحكومة تبني سياسات جادة تتعلق بالتربية الإعلامية التي تركز على رفع
مستوى وعي الأفراد في التعامل مع الإعلام الرقمي وحمايتهم من التضليل
والتلاعب بعقولهم خاصة أن الشباب مندفعون يأخذهم الحماس ليحققوا الشهرة
والانتشار في ظل شيوع ما يسمى "ترندات التيك توك" ومواقع التواصل الاجتماعي
التي تؤثر في البنية الاجتماعية وتغير القيم والعادات والتقاليد وتجعل ما
كان مرفوضا ومخالفا للمعايير مقبولا ومتداولا على أنه أمر بسيط وعادي.
وأضافت
إن سهولة استخدام الشباب لتقنيات الذكاء الاصطناعي تمكنهم من التلاعب
بالمعلومات وفبركة أخبار مزيفة ما أدى إلى عدم الثقة والتشكيك بالأخبار
الصحيحة توجسا من أن تكون أخبارا أو معلومات أو صورا صممت بفعل الذكاء
الاصطناعي حتى أصبح من أراد أن ينفي خبرا صحيحا يلصقه بالذكاء الاصطناعي
ليشكك الناس ويصرفهم عن الاهتمام به؛ لذا يجب التشديد على احترام القانون
وتفعيل استخدام قانون الجرائم الإلكترونية ليس لتكميم الأفواه وإنما
للمحافظة على أمن الأفراد وخصوصياتهم تحديدا الشباب في مقتبل العمر.
وطالبت
الرواشدة برفع الوعي في التعامل مع الإعلام الجديد الذي يضم وسائل التواصل
الاجتماعي التي أصبحت أكثر القنوات متابعة واستخداما، داعية كليات الإعلام
إلى تطوير وتغيير خططها الدراسية لتواكب التطور التقني والموضوعي الحاصل
في علم الإعلام الذي بات يحدد المهارات الأساسية للإعلامي كالتحرير الصحفي
والإبداع اللغوي والتركيز على كيفية استخدام الإعلام الجديد في إحداث
التأثير التنموي الايجابي.
استاذ الإعلام والسياسة الدكتور عبد الحكيم
القرالة يؤكد أنه في ظل التطورات التي شهدها قطاع الإعلام والذي طال كل
وسائل الإعلام الجديدة والإعلام الحديث، وبالرغم من كل الإيجابيات، إلا أن
هنالك العديد من السلبيات المرتبطة بمحتوى الخطاب الذي يبث عبر هذه
الوسائل.
وأشار إلى أن رسائل الإعلام الجديد تستهدف كل الفئات في
المجتمعات، وعلى رأسها الشباب، مطالبا من اجل تحصين الشباب بتجسيد مفهوم
التربية الاعلامية والتركيز على حملات التوعية والتدقيق، وليكون المتلقي
قادرا على تميز المحتوى المضلل والأخبار الزائفة والمحتوى المتعمد في إطار
ربما حملات ممنهجة تستهدف المجتمعات.
وبين القرالة أن الإعلام الجديد
اليوم هو السلاح الأكثر فتكا، والذي تستخدمه الدول ولا سيما عندما يكون
هناك صراعات ونزاعات بين الدول، فإن الاستهداف يكون مباشرا للمجتمعات
وعابرا للحدود، وبث حالة من عدم الاستقرار والقلاقل والفوضى، وهذه المناحي
سلبية وخطيرة بالذات على السلم الأهلي والمجتمعي.
ونوه بأننا لا نستطيع
أن نغفل عن رسائل الإعلام الجديد في ظل هذا الفضاء المفتوح، وخصوصا ما
يتعلق بوجود وسائل التواصل الاجتماعي أنتجت الكثير من السلوكيات والظواهر
السلبية عندما تمتهن بعض الجهات وبعض الدول في إرسال خطاب قائم على الغلو
والتشدد والتطرف واختطاف المشهد العام عبر تطويع وسائل الإعلام في ظل هذه
التطورات التي تجعل منه خطيرا.
وأكد أن الأردن اتخذ خطوات إيجابية
وقائية واستباقية لتمتين المجتمع وفئة الشباب، وانتقل إلى مرحلة من الوعي
الفكري بأهمية التبيان والتحقق، وأخذ المحتوى والأخبار من مصادرها
الموثوقة، والتحقق من صدقيتها بعيدا عن المحتوى المشوه الزائف الذي يقوم
على بث الأخبار غير الدقيقة والكاذبة، وفي كثير من الأحيان هذه محتويات
خطيرة تستهدف أمن المجتمعات والسلم الأهلي والسلم الاجتماعي، وربما يصل
الأمر إلى التغرير بالشباب في اتجاه تبني بعض الأفكار القائمة على الغلو
والتشدد وتشويه الوعي الفردي والوعي الجمعي بأسلوب متعمد وبمزاعم وضلالات
مقصودة.
المختصة في الإعلام الرقمي سلام حجة قالت إن الدول تتجه نحو
تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، بما في ذلك الإعلام، حيث
بدأت بعض وسائل الإعلام الاستغناء عن المصور داخل الاستدويو، واستبداله
بأنظمة تحكم بالكاميرات تدار عن بعد في غرفة المخرج.
وأضافت إن هذا
الاندفاع نحو تحقيق السبق التكنولوجي غالبا ما يأتي على حساب التفكير في
الأضرار المحتملة الناتجة عنه، خصوصا ما يتعلق بتأثيره على جمهور المتلقين،
مؤكدة أن من المهم أن تواكب الدول هذا التطور بسن تشريعات تحمي الخصوصية
وتحافظ على حقوق الأفراد حتى لا يصبح الذكاء الاصطناعي أداة للإضرار أكثر
من كونه وسيلة للتطوير.
--(بترا)
ب ص