الأخبار

د. محمد العرب : أعصاب رقمية: متى يصبح الألم اشتراكاً شهرياً؟

د. محمد العرب : أعصاب رقمية: متى يصبح الألم اشتراكاً شهرياً؟
أخبارنا :  

في زمنٍ لم يعد فيه الألم مجرد تجربة حسية، بل سلعة قابلة للجدولة والتعديل، تدخل البشرية منعطفاً وجودياً لا يشبه أي لحظة من تاريخها المعروف !
تخيل أن وجعك، صداعك، نوبات القلق، ألم المفاصل، أو حتى كسرة قلبك، تُدار جميعها من لوحة تحكّم، لا تحتاج دواء ولا طبيباً ولا حتى صبراً، بل مجرد اشتراك شهري في خدمة (التحكّم العصبي الرقمي)، هذا ليس خيالاً مستقبلياً خالصاً، بل واقع يتم بناؤه اليوم في صمت داخل مختبرات عابرة للقارات، تحت شعارات براقة مثل: (عيش بلا ألم)، (أنت تتحكم في حواسك)، (ابدأ نسخة أفضل من نفسك) لكن ما الذي يعنيه ذلك؟ وهل السيطرة على الألم نعمة أم بداية نقمة مقنّعة؟
في عام 2031، تبدأ شركات تكنولوجيا الأعصاب في تسويق الجيل الأول من رقائق الأعصاب التجارية، وهي شرائح صغيرة تُزرع تحت الجلد أو مباشرة في العمود الفقري أو الدماغ، وتعمل على اعتراض الإشارات العصبية المؤدية إلى الشعور بالألم، قبل أن تصل إلى وعي الإنسان.
يُعرض على المستخدمين تطبيق متطور يسمح لهم بتحديد مستوى (الإحساس) ضبطه، أو حتى تعطيله مؤقتاً، لكن النسخة المجانية لا تعطي سوى خيارات محدودة: تقليل الصداع أو تهدئة توتر العضلات. أما الاشتراك الكامل، الذي يُدفع شهرياً، فهو وحده من يمنحك السيطرة الكاملة على الألم: يمكنك حذف الصداع النصفي من حياتك، إيقاف وجع الأسنان، تعطيل الشعور بالبرد، أو حتى حجب الصدمة العاطفية بعد فشل علاقة.
لكن المسألة لا تتوقف عند الترفيه العصبي أو الراحة الجسدية. إذ أن التحكم بالألم هو في جوهره تحكم بالإنسان ذاته. الألم هو اللغة الصامتة التي يقول بها الجسد (هناك خطر)، (هناك فقد)، (هناك خلل ) إنه نظام إنذار مبكر زرعته الطبيعة بذكاء قاسٍ في عصب الإنسان منذ نشأته. تعطيله، أو تأجيره، أو تخصيصه حسب الاشتراك، يعني أننا نخنق واحدة من أصدق لغات الحياة.
تصبح المعاناة بذلك ترفاً اختيارياً، خاضعة للسوق، وللباقة التي اخترتها، وللخطة التي دفعت ثمنها. ومن لا يملك ثمن الاشتراك الكامل؟ ببساطة، سيشعر بكل شيء وبشكل أوضح، سيُترك ليُعاني كما عانى الإنسان البدائي، لكن هذه المرة وهو يراقب الآخرين وهم يُطفئون آلامهم بزرّ !
الأخطر من ذلك أن (التفاوت الطبقي العصبي) سيولد نوعاً جديداً من اللاعدالة لم تعرفه المجتمعات من قبل. لم تعد المسألة ترفاً كالسفر أو الماركات الفاخرة، بل صارت امتيازاً وجودياً: من يملك المال لن يتألم، ومن لا يملك فليتألم بصمت. ستتغير مفاهيم الشجاعة والتحمل، وستتحول الصدمات النفسية إلى رموز تُشترى وتُدار كملفات بيانات. ستخسر الإنسانية أعمق أدوات النضج التي كانت تنتجها المصائب والأحزان والمخاضات المؤلمة، لأن الألم ذاته لم يعد يمرّ، بل يُعالج سلفاً قبل أن يتكون.
الأطباء النفسيون سيواجهون جيلاً لا يعرف الكبت بل يُعدّله، لا يحتاج جلسات علاج بل إعدادات في التطبيق، لا يحتاج مَن يصغي له بل من يُبرمج شعوره، ولا يعود الفقد مناسبة للحزن، بل إشعاراً رقمياً يقول: تم تعطيل الألم مؤقتاً،
حتى الشعراء سيتوقفون عن الكتابة. فالشعر، في جوهره، ابن الألم، والحرف لا يشتعل إلا حين تحترق الروح. فماذا يكتب شاعر بلا جرح؟
وماذا يغني مغنٍّ لا يعرف طعم الحنين؟
ومن يرسم دمعة لم يشعر بوخزها في قلبه؟
لقد صار الألم رفاهية لمن يختار أن يحتفظ بإنسانيته.
في هذا العالم، لم يعد الانتحار بسبب الألم، بل بسبب غيابه.
نعم، لقد تم تسجيل أولى الحالات في اليابان والسويد لشباب أصحاء، قاموا بتعطيل الألم بشكل دائم، ثم انتحروا بعد أشهر من الفراغ الشعوري !
الألم كان هو الوحيد الذي يذكّرهم بأنهم أحياء، وحين غاب، لم يعودوا متأكدين من كونهم بشراً
صرّح أحد الأطباء: تبيّن أن الألم لم يكن عدواً بل كان آخر حليف خفي لإنسانيتنا !
ووسط هذه الفوضى، يظهر تيار فلسفي جديد يسمى (المدرسة الواقعية الشعورية) يطالب بالعودة إلى الألم الطبيعي، ويدعو الناس إلى إزالة الشرائح، والتوقف عن تهذيب الشعور، ويقيم طقوساً لاحتضان الألم وتقديس المعاناة.
يرى أتباع هذه المدرسة أن الألم ليس ضعفاً، بل وعي، وأن الإنسان الذي لا يتألم، لا يستطيع أن يشعر بالآخر، ولا أن يحب، ولا أن يغفر، لأنه ببساطة لا يشعر.
وهكذا، حين يصبح الألم اشتراكاً شهرياً، لن تتغير فقط حياتنا اليومية، بل ستتغير طبيعتنا بالكامل وسيتحول الإنسان من كائن يشعر ويتفاعل ويصبر ويتألم ويقاوم، إلى نسخة من نفسه لا تعاني، لكنها لا تحب، لا تتوجع، لكنها لا تتأمل، لا تبكي لكنها لم تعد تعرف لماذا تعيش.
وما لم نتدارك هذا الجنون المبرمج، فربما يكون (إلغاء الألم) هو أول خطوة نحو (إلغاء الإنسان)، هذا اجتهادٌ استشرافي لما قد يكون، بحسب ما أراه من مؤشرات والله أعلم بالغيب.

مواضيع قد تهمك