السفير زياد خازر المجالي : اليوم التالي أم نقطة اللاعودة

ترددت منذ مطلع العام الماضي أن أكتب مقالاً تحت هذا العنوان، لأن المنطق الموضوعي كان دائماً في تقديري ، أن أصحاب القرار سيدركون ضرورة الابتعاد عن الخيار الثاني، وأن منطق الوصول إلى نقطة اللاعودة قد تفتح الأبواب أمام مآسٍ بشريةٍ عابرة للحدود الجغرافية ، وعابرة وربما - متمردة - على كل قيود القيم الإنسانية والاتفاقيات الدولية.
كان معظم أصحاب القرار السياسي في منطقتنا وفي العالم يراقبون أحداث السابع من تشرين الأول ٢٠٢٣، وما تلاها من دمار للبشر والحجر في غزة، وما تسرب من شبيه ذلك لمواقع عديدة في الضفة الغربية أيضا، أقول، كان كل هؤلاء ومعهم المراقبون السياسيون ينتظرون معادلة موضوعية لفكرة اليوم التالي لحرب غزة، معادلة تنهي الحرب والمعاناة الإنسانية وتعيد بناء ما تهدم ليس فقط عمرانياً وتنموياً ،وإنما إعادة إعمار ما تهدم من الثقة الكلية في السلام وإمكانية إعادة بنائه على أسسٍسليمة موضوعية تتجاوز وتحقق اكثر مما وعدت به اتفاقيات أوسلو وصولا إلى حالة سلامٍ فعلي دائم في منطقة الشرق الاوسط بشكل عام ، يضمن لكلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني الحالة التي كان يحلم بها الراحلان عرفات ورابين عندما وقعا سلام الشجعان عام ١٩٩٣ .
كنت من هؤلاء المراقبين السياسيين وكنت أحاول أن أتحايل على ذاكرتي حول حقيقة رئيس الوزراء الإسرائيلي والتي بدأتها بمتابعتي لإطلالاته الإعلامية مع محطات التلفزة الأمريكية وهو مندوب دائم لإسرائيل في الأمم المتحدة منتصف ثمانينات القرن الماضي ،و بأنه لا يمكن أن يكون جزءاً من معادلة سلام وفق اتفاقات أوسلو ، وأنه ينتمي لمدرسة متطرفة لا تؤمن بأي حق للفلسطينيين .
ومع ذلك ،وعندما كنت أقرأ بموضوعية البديل الآخر ((نقطة اللاعودة )) فإنها ستكون حالة يغذيها أساساً إما الصراع الحضاري أو الصراع الديني ، وهذان لهماعمق في وجدان الإنسان يؤدي بالحساب المنطقي إلى المعادلة الصفرية في الصراع ،والمعادلة الصفرية في الحقيقة إذا ارتبطت بالبعد الديني أو الحضاري فإنها تبقى ممتدة، وبمعنى أن القضاء على الوجود والحق الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية (( وهذا حلم نتنياهو وزملائه الثلاثة بن غفير وسموتريش وكاتس )) سيبقى الباب مفتوحاً لصراع إسرائيلي عربي، ومؤسف أن نقول إلى صراعٍ يهودي إسلامي عابرٍ للحدود .
وإذا كانت دوائر محبي السلام في العالم ،والأردن وقيادته الهاشمية من بينهم ، قد حذروا مبكراً من إمكانية استمرار حرب غزة أن تؤدي إلى صراعات إقليمية غير محسوبة الامتداد، فإن الواقع أثبت من حيث المبدأ صحة تلك القراءة فكان انخراط حزب الله ثمالحوثيون في تلك الحرب ونعلم تماما أن الوصول الآن إلى حرب الإبادة جوعا لأهل غزة يمكن أن تفتح أبواباً من الدمار الممتد إقليميا -وربما يكون له تبعات عابرة للحدود-
وعندما يلجأ الإنسان إلى بعض التفاؤل ، ليستعيض عن فكرة نقطة اللاعودة - أي المعادلة الصفرية في صراع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني- للبحث في فكرة "اليوم التالي " والتي تفتح باباً ، بل أبواباً للسلام ، وأكثر من ذلك ازدهاراً وتنمية في كامل منطقة الشرق الاوسط ،فإن الواقع الذي يصطدم به هو حقيقة أن القراءة الدولية أن لا سلام ((ويوماً تالياً )) بوجود حماس على الأرض وفي موقع تأثير، فإن هذه القراءة الدولية يجب أن تكون موضوعية لتدرك أن القيادة الإسرائيلية الحالية المتطرفة لا يمكن أن تكون شريكة حتى لبداية البحث عن مقدمات اليوم التالي ، فثقافة هذه القيادة الإسرائيلية هي التي أدت إلى اغتيال إسحاق رابين.
وبعد ، وأمام هذه الحالة في غزة والقابلة أن تؤدي إلى مضاعفات لا يحمد عقباها في الأمن والسلم الشرق أوسطي والعالمي ، نتساءل ، هل مازال هناك إمكانية للتفكير خارج الصندوق ، لإنقاذ الإنسان ، وإنقاذ السلام الإقليمي، كمقدمة لأفكار كبرى للسلام الدولي.
في تقديري بداية ، أنه إذا كان رأي الكثير من الباحثين والمراقبين الدوليين أن لا أفكار خارج الصندوق بوجود حركة حماس فإن المنطق أيضا وفي ضوء الموقف الواضح والصريح لأقطاب الحكومة الإسرائيلية الحالية ، أن لا أفكار خارج الصندوق ما لم يقيّم ويعدّل الناخب الإسرائيلي سريعاً من حالته السياسية بشأن أصحاب القرار السياسي المصيري لمستقبل الشعب الإسرائيلي. ولحلفاء إسرائيل من واشنطن إلى بعض العواصم الأوروبية شأن في رسائل للناخب الإسرائيلي للبحث عن وجوهٍ جديدة تدير دفة مسيرته نحو رفاهٍ يعتمد السلام الفعلي ، ووعد ترامب لناخبيه في ميتشيغان وأصوات العرب الوازنة هناك خلال حملته الانتخابية بأنه سيقيم السلام في الشرق الأوسط ،وتكرار وعده هذا في ميتشيغان قبل جولته الخليجية الأخيرة، يؤهل واشنطن لتأثير أكبر في مجريات الحالة السياسية الإسرائيلية. خاصة وأن واشنطن باتت واثقة الآن مما كنا نتحدث عنه تكراراً بأن نتنياهو يعتبر استمرار الحرب ولو على حساب المدنيين الأبرياء هي الضمان الوحيدة له أن لا ينتهي إلى هامش سيء من صفحات تاريخ إسرائيل .
والسؤال الأهم بعد هذه المجازر والويلات التي عانى منها أهل غزة ،وبعض الضفة الغربية ، والغضب العارم القابل للتفجير في العالمين العربي والإسلامي، هل هناك مجال للتفكير في معادلة تخفف حدة التوتر والصراع ((الثقافي))؟
وهنا، أعيد مسحة من التفاؤل بالعودة إلى أجواء الإنتفاضة الفلسطينية الأولى ،واذكر بأن إسحاق رابين الذي كان وزيراً للدفاع ثم رئيساً للوزراء هو صاحب نظرية تكسير عظم السواعد في معالجة الانتفاضة الفلسطينية الأولى ، وعندما توافقت الظروف الدولية الإقليمية ، كان رابين نفسه بطل سلام الشجعان مع الرئيس عرفات.
لكن منهجية تفكير رابين في البحث عن السلام ليست كمنهجية تفكير نتنياهو الباحث عن مكان تحت الشمس ، والرافض للوجود الفلسطيني ،وأكثر من ذلك الذي يريد أن يتمدد جغرافيا على حساب دول عربية أعضاء في الأمم المتحدة وفق منهجية صهيونية لم يخفها أنصاره.
في الواقع لا يوجد إسرائيلي طبيعي يرغب بأن ينام آمنا تحت ستار ضمان درعٍ من الصواريخ المضادة لمسيرات وصواريختستهدفه ،ولا عدد من الطائرات الحربية تضمن له أجواء آمنة ولا حاملات طائرات أمريكية شرق المتوسط توفر له راحة نفسية.
الإسرائيلي الطبيعي يعرف أن أضمن سلام، والأقل كلفة والأكثر استدامة هو ذلك السلام الذي يضمنه له جارٌ مسالمٌ يتبادل معه الاعتراف بحق الوجود الآمن على ما يملكه من أرض ، ومقام وسرير يغفو عليه هانئاً.
مما سبق أصل إلى قناعة أنه برغم الألم والدم والدمار وانتهاك أبسط قواعد القانون الدولي الإنساني ،فإن المسؤولية الدولية وخاصة لدى عواصم القرار يجب أن لا تفقد الأمل بحل خارج الصندوق يستثني هذه المرحلة من إفساد الحالة الثقافية لدى الأجيال الإسرائيلية التي بدأت منذ عام ١٩٩٦ ورد الفعل الطبيعي عليها من قبل حركة حماس ، ويطرح سلاما واضح القواعد والأسس والجداول الزمنية ، ويستند إلى قواعد موضوعية تجعل الأجيال القادمة هي من يحميه لا الطائرات والدبابات.
فهل يتابع ترامب وعوده في تحقيق السلام ، وهل يخرج عن ضغوطات المتطرفين الصهاينة ليحاول تحقيق طموحه في نيل جائزة نوبل للسلام ؟!!