د. احمد الخصاونة : عيد الاستقلال الأردني: مسيرة التعليم من الإمارة إلى النهضة الحديثة

يستذكر الأردنيون في الخامس والعشرين من أيار كل عام يومًا مجيدًا في تاريخ الوطن، يوم ارتفعت فيه راية الاستقلال خفّاقة عام 1946، معلنة ميلاد السيادة الوطنية للمملكة الأردنية الهاشمية، وانتهاء عهد الانتداب البريطاني. إنه يوم تجسدت فيه الإرادة الحرة، وارتسمت ملامح الدولة الحديثة، بقيادة الهاشميين الأطهار، الذين صاغوا مع الشعب الأردني الأبيّ ملحمة بناء استثنائية، كان التعليم عنوانها الأبرز وركيزتها الأهم.
منذ بواكير التأسيس، وتحديدًا مع نشوء إمارة شرق الأردن عام 1921، أدركت القيادة الحكيمة أن التعليم هو السلاح الأمضى لبناء الإنسان والمجتمع والدولة. ففي زمن كانت فيه المدارس محدودة تتركّز في عمان والسلط، انطلقت مسيرة التعليم لتضيء دروب الأردنيين، وتهيئهم لصنع مستقبلهم بأيديهم. ومع إعلان الاستقلال عام 1946، تسارعت خطوات الدولة الأردنية لترسيخ دعائم التعليم، فامتدت المدارس إلى الأرياف والبوادي، وارتفع شعار محو الأمية، وتعليم البنات، وتجذير المعرفة كحق لكل مواطن. واجهت الدولة تحديات جمة في العقود الأولى، من قلة المعلمين إلى ضعف البنية التحتية، غير أن الإرادة السياسية والشعبية كسرت القيود، فانطلقت النهضة التربوية.
بحلول السبعينيات، أُقر التعليم الإلزامي حتى الصف العاشر، وتزايدت أعداد المدارس من 100 مدرسة في أربعينيات القرن الماضي إلى نحو 600 مدرسة في عام 1970، في طفرة تربوية استثنائية. ولم يتوقف الطموح عند التعليم المدرسي، بل امتد إلى آفاق أرحب، مع تأسيس الجامعة الأردنية عام 1962، ثم جامعة اليرموك عام 1976، فمؤتة، ثم بقية الجامعات، لتشكل هذه المؤسسات منارات للعلم، ومصانع للعقول، ونواة لتعليم عالٍ نوعي تجاوز الحدود. وفي موازاة التعليم الأكاديمي، شقّ التدريب المهني طريقه، من الورش المتواضعة إلى مراكز حديثة مدعومة بأحدث التقنيات، استجابة لمتطلبات سوق العمل، وتعزيزًا للقدرات الإنتاجية الوطنية.
لكن نقطة التحول الحاسمة، جاءت مع تسلّم جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم سلطاته الدستورية عام 1999، حيث دخل التعليم الأردني مرحلة جديدة من التحديث والتطوير الشامل. فقد شهد قطاع التعليم في عهد جلالته نقلة نوعية، تمثلت بإصلاحات هيكلية، وتوسّع عمراني وبشري، وتحول رقمي طموح، وتكامل بين التعليم العام، والعالي، والمهني. وارتفع عدد الجامعات الحكومية والخاصة إلى أكثر من 30 جامعة بحلول عام 2025، تضم ما يزيد على 300 ألف طالب، من بينهم 50 ألفًا من الطلبة الوافدين، ما عزز مكانة الأردن كمركز إقليمي للتعليم العالي. وتم إدخال تخصصات المستقبل، كالذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وعلوم البيانات، لتواكب الجامعات العصر وتستشرف القادم. وفي مجال البحث العلمي، جاءت مبادرة صندوق دعم البحث العلمي عام 2007، لتكون رافعة للابتكار والمعرفة، حيث موّل الصندوق أكثر من ألفي مشروع بحثي حتى عام 2025، في مختلف ميادين المعرفة والتطبيق.
أما التدريب المهني، فقد عرف نهضة غير مسبوقة؛ إذ تم إنشاء 15 مركز تدريب مهني متطورًا، وتعاونت مؤسسة التدريب المهني مع شركات عالمية مثل «مايكروسوفت» و»سيمنس»، كما أطلقت الحكومة برنامج «مهني» الذي خرّج أكثر من 100 ألف شاب وشابة. ولم تغب ريادة الأعمال عن المشهد، بل أُنشئت حاضنات في الجامعات ومراكز التدريب لدعم الشباب وتحفيز الإبداع.
إنجازات التعليم في العهد الحديث ماثلة للعيان: نسبة الأمية انخفضت إلى أقل من 2%، وتم دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعليم، وأنشئت أكثر من 200 مدرسة مهيأة لاستقبال الطلبة من ذوي الإعاقة، وارتفع الإنفاق على التعليم إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق وثيقة «الأردن 2025»، التي جعلت من التعليم محورًا للتنمية الشاملة.
ولا يمر عيد الاستقلال دون أن يكون للتعليم نصيب من الاحتفاء والرمزية؛ فتنظّم الجامعات معارض لعرض مشاريع طلبتها، وتقام مسابقات ثقافية وعلمية في المدارس، وتُعلن منح دراسية للمتفوقين، وتُنظَّم عروض مسرحية تحكي قصة الاستقلال، ودور التعليم في بناء الدولة الحديثة.
ولا يمكن الحديث عن نهضة التعليم في الأردن دون التوقّف عند الرؤية الملكية السامية، التي شكّلت البوصلة والضمانة للاستمرارية والتجديد. فقد كان جلالة الملك عبد الله الثاني، منذ تسلّمه سلطاته الدستورية، قائدًا لمشروع تعليمي وطني، آمن بأن الإنسان هو أغلى ما نملك، وأن الاستثمار في العقول هو أقصر طريق إلى التنمية المستدامة. فدعم جلالته البرامج الإصلاحية التعليمية، ووجّه بإطلاق المبادرات الوطنية الكبرى، مثل «مدرستي»، و»التعليم نحو اقتصاد المعرفة»، وشدّد مرارًا في خطبه وأوراقه النقاشية على أهمية تجسير الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل. كما شكّلت جلالة الملكة رانيا العبد الله، أيقونةً في ميدان التعليم، حيث تبنّت عبر مؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية، مبادرات نوعية تهدف إلى تمكين المعلمين، وتطوير المناهج، وتعزيز ثقافة التعلّم المبني على الإبداع والنقد والتحليل، ومن أبرزها: منصة «إدراك» للتعليم المفتوح، وبرنامج «علّم لاجلك»، ومشروع «التعلّم المدمج»، ما جعلها رمزًا عالميًا في الدفاع عن حق الأطفال بالتعليم النوعي والآمن. ويتابع سمو الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، ولي العهد، هذا النهج الوطني الأصيل، عبر مبادراته الريادية التي تستهدف فئة الشباب وتمكينهم علميًا وتقنيًا، مثل مبادرة «حقق»، و»صناع التغيير»، وبرنامج «التدريب من أجل التشغيل»، بالإضافة إلى دعم المشاريع الابتكارية في مجالات التكنولوجيا والبرمجة والذكاء الاصطناعي، إيمانًا من سموّه بأن الشباب هم ركيزة المستقبل، وأن التعليم هو مفتاحهم للنهضة والمنافسة عالميًا.
إن عيد الاستقلال ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو محطة لتجديد العهد والولاء، وللتأمل في مسيرة وطن مضى في طريق البناء رغم الصعاب. وإن التعليم، الذي حمل مشعل النهضة منذ المهد، لا يزال اليوم ذراع الوطن الأقوى، وأداته الأهم لتمكين الأجيال وصناعة المستقبل.
وفي عهد الملك عبد الله الثاني، يُكتب للتعليم الأردني فصل جديد، يزاوج بين الأصالة والمعاصرة، وبين الهوية والانفتاح، لتبقى المملكة الأردنية الهاشمية منارة للعلم، ومثالًا يُحتذى في النهوض بالتعليم كحق وطني ومشروع نهضوي دائم.
كل عام والأردن بخير ... وكل استقلال وتعليمنا بألف فخر.