الأخبار

حسام الحوراني : الحوسبة الكمومية بوابة لتطوير مواد جديدة تُغيّر وجه العالم

حسام الحوراني : الحوسبة الكمومية بوابة لتطوير مواد جديدة تُغيّر وجه العالم
أخبارنا :  

في الأعماق الهادئة لمختبرات الفيزياء المتقدمة، تجري حاليًا ثورة علمية صامتة ستغير شكل المستقبل كما نعرفه. إنها ثورة الحوسبة الكمومية، تحديدًا باستخدام الكيوبتات القائمة على الدوائر الفائقة التوصيل، وهي تقنية تُحدث نقلة نوعية في مجالات متعددة، لكن واحدة من أكثر تطبيقاتها إثارة للعقول والخيال هي: تطوير مواد جديدة بمستويات غير مسبوقة من الدقة والابتكار.

لفترة طويلة، كان اكتشاف المواد يتم عن طريق التجربة والخطأ. نخلط المركبات، نراقب النتائج، ونعيد التجربة مرات لا تُعد. لكن مع الحوسبة الكمومية، وتحديدًا مع التقدم في بناء أنظمة قائمة على الكيوبتات الفائقة التوصيل، أصبح بإمكاننا محاكاة التفاعلات الكيميائية والفيزيائية للجزيئات والمواد على مستوى الذرات، بدقة تعجز عنها أقوى الحواسيب التقليدية.

فما علاقة هذه «الكيوبتات» بصناعات مثل الطيران، البناء، الطاقة أو حتى الهواتف الذكية؟

الإجابة تكمن في أن كل صناعة تعتمد على مادة معينة: سبائك خفيفة وأقوى للطائرات، موصلات أفضل للإلكترونيات، مواد عازلة للطاقة، مركبات كيميائية أكثر كفاءة للبطاريات، أو حتى مواد حيوية لاستخدامها داخل جسم الإنسان. كل هذه المواد – في نهاية المطاف – تُبنى من تفاعلات ذرية دقيقة. ومع الحوسبة الكمومية، يمكننا تصميم مواد بخصائص محددة قبل أن نصنعها فعليًا في المختبر، ما يُسرّع عملية الاكتشاف ويخفض كلفتها بشكل مذهل.

وعندما نتحدث عن الكيوبتات القائمة على الدوائر الفائقة التوصيل، فإننا نتحدث عن النوع الأكثر واعدًا من حيث الأداء والاستقرار، والقادر على إجراء محاكاة جزيئية معقدة بسرعة خارقة ودقة غير مسبوقة. هذه الكيوبتات تعمل في درجات حرارة منخفضة جدًا (قريبة من الصفر المطلق) وتتميز بإمكانية التحكم بها بسهولة نسبية مقارنة بأنواع أخرى، مثل الكيوبتات الضوئية أو الأيونية.

وقد بدأت شركات عملاقة مثل Google وIBM وMicrosoft بالاستثمار الهائل في هذه التكنولوجيا، لإنشاء ما يُعرف بـ»منصات المواد الكمومية» وهي أنظمة ذكية تُستخدم لاكتشاف وتصميم المواد الجديدة بناء على المحاكاة الكمومية بدلاً من التجربة المخبرية البطيئة والمكلفة.

خذ على سبيل المثال تطوير موصلات فائقة تعمل في درجات حرارة أعلى من المعتاد. هذه المواد – التي تسمح بمرور الكهرباء دون فقد للطاقة – تُعد حلمًا للمهندسين ومصممي شبكات الكهرباء. ولكن فهم كيفية تشكل هذه الموصلات كان شبه مستحيل نظرًا لتعقيد التفاعلات الداخلية. اليوم، باستخدام معالجات كمومية فائقة التوصيل، يمكن محاكاة تلك التفاعلات بدقة، ما يُمهّد الطريق لاكتشاف موصلات جديدة تُحدث ثورة في النقل الكهربائي حول العالم.

في مجال الطاقة المتجددة، مثلاً، يُمكن لمحاكاة كمومية أن تكتشف مواد أفضل لتخزين الهيدروجين أو تحسين كفاءة الألواح الشمسية. وفي الفضاء والطيران، يمكن للمواد الجديدة التي تُطوّر كموميًا أن تكون أخف وزنًا، وأقوى في التحمل، وأكثر مقاومة للإشعاع – مما يقلل من التكاليف ويحسن الأداء.

الأمر لا يقف عند المواد الصلبة فقط. حتى الكيماويات الصناعية – من الأسمدة إلى الوقود – يمكن تحسينها واكتشاف بدائل أكثر أمانًا وصداقة للبيئة من خلال المحاكاة الكمومية التي تتعمق في خصائص كل ذرة وكل رابط كيميائي.

لكن التأثير الحقيقي لهذه التكنولوجيا سيظهر عندما تنتقل من المختبرات إلى العالم الواقعي. وعندها، سنشهد تسارعًا غير مسبوق في تطوير مواد وأدوية وأجهزة، قد تُغيّر معايير الحياة كما نعرفها. ستكون هناك أقمشة تنظف نفسها، زجاجٌ يرمم خدوشه، بطاريات تشحن في ثوانٍ، وأجهزة طبية تذوب في الجسم بعد أن تُتم وظيفتها.

ومع كل هذا التقدم، تُطرح تساؤلات مشروعة: من سيسيطر على هذه التكنولوجيا؟ ومن سيحكم استخدامها؟ وهل ستكون متاحة للدول النامية، أم حكرًا على القوى العظمى؟

في هذا السياق، يُمكن للدول العربية التي تسعى إلى تحقيق رؤية اقتصادية قائمة على المعرفة، أن تدخل هذا السباق من بابه الصحيح، عبر الاستثمار في البحث العلمي، وتعليم الجيل الجديد مفاهيم الحوسبة الكمومية، وعقد شراكات مع مراكز أبحاث عالمية. لا نحتاج إلى بناء حاسوب كمومي من الصفر، بل إلى أن نعرف كيف نستخدمه بذكاء في مجالات تخدم احتياجاتنا التنموية.

بالمختصر، لا تُعتبر الكيوبتات الفائقة التوصيل مجرد تقنية جديدة، بل نقلة نوعية في العقل البشري نفسه، تُتيح لنا تجاوز حدود الطبيعة لفهمها وتشكيلها من جديد. ومع الحوسبة الكمومية، لم نعد فقط نرصد العالم، بل نعيد تصميمه – ذرة بذرة. فهل من مدكر؟

مواضيع قد تهمك