صالح سليم الحموري يكتب : مستقبل الماضي

حين تصبح الذاكرة خطة عمل، وفي عالم يتسابق نحو المستقبل، تسير بعض الدول في الاتجاه المعاكس: فهي لا تخطط للغد، بل تُتقن التخطيط للماضي. تحتفي بأمجادٍ قد خَلت، وتُعيد تدوير إنجازات الأجداد كأنها إنجازات اليوم، وتُشيّد الاحتفالات على ركام التاريخ وكأن في ذلك عزاءً عن الحاضر أو تأجيلًا للمستقبل.
لا خلاف على أهمية التاريخ في تشكيل الهوية الوطنية، ولا في دوره بوصفه معلمًا للأمم. لكن الخطورة تبدأ حين يتحوّل التاريخ إلى عكازٍ تتكئ عليه الدول العاجزة عن مواجهة الحاضر، أو مرآة تُزيّن الواقع الباهت بترديد الشعارات القديمة. فبدلًا من أن يكون التاريخ مصدر إلهام، يُختزل إلى أناشيد، وتماثيل، وخطب لا تُغيّر من الواقع شيئًا.
الدول التي تُغني للماضي دون أن تصنع الحاضر تُشبه شخصًا يعلّق صور شبابه على الجدران، بينما يتهرّب من مسؤوليات عمره الراهن. لا تنمية بلا تخطيط، ولا نهضة بلا رؤية. والحنين، إن لم يُقرن بعمل، يتحول إلى إعاقة ذهنية تمنع التقدم.
حين تتحول رموز الماضي إلى "تابوهات" لا تُمس، تُغلق نوافذ النقد وتُشل أدوات الإصلاح. ويصبح كل تجديد تجرؤًا، وكل تطوير خيانة، فتتجذّر البيروقراطية ويتضخم الماضي حتى يخنق أي مشروع مستقبلي. والنتيجة: خطط وطنية تُكتب بروح ماضوية، وكأن المطلوب ليس العبور إلى الأمام، بل إعادة تمثيل المسرحية نفسها.
الدول الرائدة اليوم لم تصل إلى مكانتها بالبكاء على أطلال ماضيها، بل بخلق "ماضٍ جديد" كل يوم عبر الابتكار، والتحول الرقمي، والتعليم، وتمكين الشباب. من أراد المجد، فليبنه من جديد، لا أن يستعيره من كتب التاريخ.