د. محمد العرب : مَن قال إن السواد ليس مجداً؟

ليس للغراب نرجسية الطاووس، ولا مكر الثعلب، ولا وداعة الحمام، لكنه، رغم كل ذلك، يُروّض الخوف ويعلّم الدهشة ويقف في الظلال شامخاً كأنه سيد المجهول لطالما ظُلم الغراب، حُمّل خطايا لم يرتكبها، وسُبّ بلونه، لا بفعله. أصبح رمزاً للتشاؤم في ثقافات لا تحتمل سوى الجمال المُعلّب والبراءة المصطنعة، لكن الحقيقة أن الغراب أكبر من تلك الأساطير، وأعمق كثيراً من تلك النظرات السطحية
إنه طائر لا يسعى لإرضاء أحد، ولا يُجيد التجمّل، ولذلك نخافه لأنه يعكس حقيقتنا، لا صورتنا !
الغراب، وحده، من فهِم دفن الموتى قبل البشر ، في صمت جناحيه، اختبأت أول شعيرة دفن عرفها الإنسان، حين أرسله الله ليعلّم قابيل كيف يواري سوءة أخيه ، كان الغراب أول معلّم ولم يحتج للغة ،كان صامتاً، لكنه علّم بالمشهد، بالحركة، بالعبرة ومنذ ذلك اليوم، أصبح الغراب صديق الأسرار، رسول الظلال، وحارس الفناء.
أي مخلوق هذا الذي يخافه الناس لأنه أسود؟! اللون ليس خطيئة، بل هو الستر الكامل، الظل الذي لا يكشف عوراته. الغراب لا يطلب القبول، ولا يتوسل التعاطف، بل يمرّ بثقةٍ في سماءٍ يكرهها، لكنه لا يهرب منها. لا يصرخ كالببغاء، لا يتراقص كالعصافير، لا يتسول فتات الموائد بل يصطاد رزقه عن كبرياء. يعيش على الهامش، لكنه يملك قلب المركز.
تأمّله جيداً حين يقف على الغصن، منتصباً كأنه تمثال وُضع ليحرس زمناً غامضاً. عيناه ليستا للزينة، بل كاميرتان تسجلان كل خيانة في العالم. صوته ليس نشازاً، بل نداء ما بعد الحقيقة، حين تنتهي كل الكلمات وتبدأ الأصوات التي لا تترجم. الغراب لا يبتسم، لأنه لا يعرف التزييف. لا يُغني، لأنه لا يعرف الخداع الموسيقي. إنه ببساطة مرآة للكون كما هو دون أقنعة.
من يراقب الغربان سيعرف أنها لا تعيش عبثاً. لها ذاكرة لا ينساها الزمان، تعود إلى من أساء لها ولو بعد سنوات. تُخطط، تُراقب، تُجرب، وتتعلم. في كل سربٍ من الغربان حكمةٌ مكسوة بريش قاتم، تُخيف من لا يحب الحقيقة العارية. ولذلك، شوهها الإنسان، كما شوّه كل من لا يشبهه.
في الأساطير، جعلوه طائر الموت، نذير النهايات. لكن، ألا يُولد الوعي من النهاية؟ أليس في كل موتٍ ميلاد لشيء آخر؟ الغراب لا يبشّر بالموت، بل يرافقه كي لا يخافه أحد. هو الممر، لا الجلاد. هو الذي يحضر حين يتوارى الجميع، ويقف على شجرة قرب مقبرة، لا ليندب، بل ليشهد. شهادته صامتة، لكنها أقوى من ألف خطبة.
لو كان الغراب حيواناً أليفاً، لحظي بحب الجميع. لكنه اختار أن يبقى حراً، وأن يعيش بنظامه الخاص، في مجتمعٍ صغيرٍ منظم، يعرف التراتب، ويقدّر الشيوخ، ويتعلم من الأخطاء. نعم، الغربان تتعلم. بل وتُقيم طقوساً لوداع موتاها، وكأنها تفهم أن كل حياة تستحق لحظة صمت. أي مخلوقٍ هذا الذي نحاربه ونحن لا نعرفه؟ أي طائرٍ هذا الذي نخافه لأنه لم يُدرّس في كتب التربية؟!
ربما الغراب هو الكائن الوحيد الذي لم يحاول أن يُصبح شيئاً آخر، لم يتغيّر ليرضينا، ولم ينكر لونه، ولم يتوسّل مكاناً على موائد البشر. ولذلك، يستحق الاحترام. لأن الكائن الذي لا يتنازل عن جوهره، هو الأصدق وهو الأجمل وإن لم يعترف أحد بجماله.
في زمنٍ يركض فيه الجميع نحو الضوء المصطنع، يبقى الغراب هو الحقيقة التي تحلّق خارج المدار. لا يغوي، ولا يُجمّل، بل يُذكّر. وإن كنت ممن يفهمون الإشارات، ستعلم أن الغراب لا يزورك عبثاً، بل حين تكون على وشك أن ترى العالم من زاوية مختلفة. زاوية لا تعيش فيها الخرافات بل تولد فيها الحكمة.
فدعوا الغراب يطير، لا تطلقوا عليه رصاص الجهل، لا تحكموا على طائر لأنه أسود، ولا تُسكتوا صوته لأنه لا يُغني لكم. الغراب ليس لكم، ولم يكن يوماً تابعاً لأي خيال. هو سيّد نفسه، ورسول الغيب، وشاهد دفن الأسرار.
ولذلك احترموه.