اسماعيل الشريف يكتب : وأنزله عن الشجرة
السياسة هي فن الممكن- بسمارك.
في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عام 1962، بلغت التوترات بين البلدين حدًّا خطيرًا كاد أن يشعل حربًا نووية، فيما عُرف بأزمة الصواريخ الكوبية. بدأت الأزمة عندما نشرت الولايات المتحدة صواريخ نووية في تركيا وإيطاليا، فردَّ الاتحاد السوفييتي بنشر صواريخ نووية في كوبا. وأحجم كلا الرئيسين كينيدي الرئيس الأمريكي ، وخورتشوف الرئيس السوفيتي عن التراجع عن موقفيهما خشية أن يُظهرا ضعفًا أمام الرأي العام. ومع تعقّد المسارات الدبلوماسية، جاء الحل عبر قناة تواصل سرية، توصّل من خلالها الطرفان إلى اتفاق يقضي بسحب الصواريخ دون إثارة ضجة. بفضل هذه التسوية، تمكن الزعيمان من التراجع دون فقدان ماء الوجه، وأصبحت الأزمة مثالًا كلاسيكيًا على ما يُعرف بـ «إنزال القادة عن الشجرة».
واستخدم جلالة الملك هذه الاستراتيجية في لقائه مع الرئيس ترامب، ولكن بشكل علني، عندما أنزل ترامب عن الشجرة بعد تصريحاته المتكررة بشأن تهجير أهل غزة إلى الأردن ومصر. أدرك الملك عبد الله، بذكائه الدبلوماسي، طبيعة شخصية ترامب، التي تميل إلى البحث عن الانتصارات السريعة والصفقات التي يمكنه التفاخر بها. لذلك، أعلن أن الأردن سيستقبل ألفي طفل غزّي لعلاجهم في مستشفياته، فتلقّى ترامب هذه المبادرة بفرح غامر، وكأنه حقق ما أراد.
بهذه المبادرة، حافظ الأردن على موقفه الثابت من القضية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته منح ترامب شعورًا بأنه حقق مكسبًا، ليكون الأردن هو الرابح في النهاية.
تنسجم هذه المكرمة الأردنية مع الموقف الإنساني الثابت الذي يتبناه الأردن تجاه أهلنا في غزة منذ بدء الإبادة، حيث تعمل المستشفيات الميدانية الأردنية في مختلف أنحاء فلسطين، ويواصل أطباؤنا وممرضونا علاج أهلنا هناك. ومع ذلك، هناك حالات تفوق إمكانيات هذه المستشفيات، ومن الطبيعي أن يُنقل أطفال غزة للعلاج في الأردن، حيث يُستقبلون بكل كرامة بين أهلهم، ليغادروا بعد شفائهم التام.
وفيما قدّم الأردن هدية إنسانية عند لقائه بترامب، تمثّلت في علاج ألفي طفل غزّي، مجسدًا بذلك البعد الإنساني والأخلاقي للأردن ودوره الإقليمي، سياسيًا وإنسانيًا، ورسالة واضحة بأن الأردن يدعم الشعب الفلسطيني ويدعو المجتمع الدولي للتحرك ومساعدة أهلنا في غزة، قدّم نتنياهو هدية مختلفة تمامًا: «بيجر» ذهبي.
لم تكن تلك هدية عادية، بل كانت رمزًا مشؤومًا يحمل في طياته الموت والدمار، انعكاسًا حقيقيًا لما يمثله هذا الكيان. لقد جسّدت هذه الهدية العلاقة الوثيقة بين الطرفين، محوّلة أدوات القتل إلى رموز للتفاخر. أما أنا، فقد رأيتها بطريقة أخرى: بدا لي «البيجر» وهو جهاز استدعاء، وكأن الصهاينة كانوا يستدعون ترامب لتنفيذ أجندتهم.
حاول ترامب، عندما أدخل الصحفيين، انتزاع تصريح واضح يؤكد موافقة الأردن على التهجير. لكن جلالة الملك، بدهائه السياسي وخبرته الطويلة، ردّ بذكاء قائلاً إنه سيعود إلى العرب. بهذا التصريح، بعث بعدة رسائل مهمة: أولها أن الأردن لا يعمل بمعزل عن الدول العربية، وأن أي حل للقضية الفلسطينية أو أي قرار يجب أن يكون منسجمًا مع التوافق العربي، حتى في تعامله مع واشنطن.
كما أكد الملك أن الأردن لاعب إقليمي مستقل وليس تابعًا، وأنه ليس وحده، بل إن أي ضغط يُمارس عليه سيُواجه برد عربي موحّد.
نعم، ففي الاتحاد قوة، ونحن أمام مفترق تاريخي يتطلب موقفًا عربيًا حاسمًا. هناك تحدٍّ كبير يقع على عاتق الدول العربية: إصدار بيان واضح يرفض خطة ترامب، وتقديم رؤية بديلة تُثبّت الشعب الفلسطيني في أرضه، وتوقف المجزرة، وتمهّد الطريق لتحقيق السلام.
شكّلت مقابلة جلالة الملك مع ترامب درسًا سياسيًا وأخلاقيًا، فقد أظهر الملك كيف يمكن للحنكة الدبلوماسية أن تحوّل الضغوط والمواقف الحرجة إلى فرص تخدم المصالح الوطنية والعربية. لم يرضخ للضغوط، ولم يسمح بفرض موقف يتعارض مع ثوابت الأردن تجاه القضية الفلسطينية، بل استخدم ذكاءه فأدار الموقف بمهارة تُشهد له، مقدمًا نموذجًا لقائد يحافظ على مبادئه دون تصعيد أو تنازل.