رمزي الغزوي : التجميل الخادع

العرب ليسوا فقط فنانين في نثر الرماد على أحداق العيون، بل هم مبدعون في رش غيوم السكر فوق جثة الموت الباردة، ليحيلوها بوظة شهية تلطّف قيظهم. هم أصحاب امتياز في تطريز التسميات والنعوت، ولهذا سمّوا هزيمة أيار «نكبة»، وهزيمة حزيران «نكسة»؛ كأنما الحرب لم تكن سوى كبوة جواد، ما يلبث أن ينهض ليكمل مسيرته المجيدة نحو السؤدد.
هذا التجميل الخادع ضاعف من هزائمنا وفاقمها، ورتّب علينا مزيداً من الخسائر. فمواجهة الهزيمة تبدأ بالاعتراف بها، كما أشار ميكافيللي في كتابه الأمير، لكن أمة العرب ضحكت على ذقن نفسها. مصيبتنا أننا لا نسمي الأشياء بأسمائها.
رغم مرور عقود، إلا أن هذه الهزيمة، التي تكمل عامها السابع والسبعين اليوم، لا تزال طازجة على صفحة التاريخ. لم يبرد طلق مخاضها، ولم يجف سيل دمها، ولم تنكمش مشيمتها، ولا هدأ نفث زفيرها وشهيقها الملتاع. أشعر بها كجرح مرشوش بالملح والزجاج المبروش؛ وربما شبنا قبل أواننا، وولدنا شيوخاً تتوكأ أفراحنا على عكازات عوجاء، تذبل تحت وطأتها، واحدودبت قاماتنا تحت أثقالها وأثافيها. لكنها ستظل طازجة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وإذا كانت كل مصيبة تولد عظيمة ثم تضمحل، فإن نكبة 1948 وُلدت هائلة، وتضخمت مع كل دقيقة علقم تمر في ميناء ساعاتنا. وكلما قلنا ستنقشع سحابة الشوك، تبرعمت من حولها الهزائم كما تتناسخ الفطريات على الجروح المهملة، وتكاثرت فسائل الانكسارات من جنباتها. ولهذا، كلما دق الكوز بجرة أيارنا، امتلأت وجوهنا دموعاً، وأجهشنا بالوجع حدَّ التراقي، لعل الألم يحزّ فينا جلداً، ويهز فينا شَعراً بات شوكاً.
اليابان خسرت حربها لكنها نهضت. وكذلك ألمانيا، وتركيا، وإيطاليا. أما نحن، فهزيمتنا لا تنكفئ إلا لتنبثق من جهة أخرى، ولا تذبل إلا لتتناسخ في كل جنباتنا. فكم نكبة أو نكسة مرت بنا بعد أيار وحزيران وبلعناها، دون أن نتعلم، دون أن نغادرها أو تغادرنا؟
سنظل نرش الملح والزجاج على الجرح، لا لنعقّمه، بل لنُبقيه مفتوحاً... شاهداً علينا.