عدنان مفضي الحدادين : تعريب قيادة الجيش.. وسام شرف يزين صدور الأردنيين

تحتفل الأسرة الأردنية الواحدة الكبيرة وعلى امتداد رقعة الوطن الغالي كل عام بذكرى عزيزة على قلب كل مخلص في أردن ابي الحسين، ألا وهي ذكرى تعريب قيادة الجيش العربي، حيث تحملنا ذاكرة الأيام الى تسعة وسـتين عاماً خلت، كان فيها صوت الحسين طيب الله ثراه مدوياً ومعلناً قراراً قومياً وتاريخياً أثر في التاريخ الأردني بل وفي التاريخ العربي وكان له بصماته الواضحة في التخلص من نير الاستعمار عندما أعلن وبصوته الهاشـمي إنهاء خدمات الفريق جلوب من قيادة الجيش العربي حيث قال: (ايها الضباط والجنود البواسل احييكم اينما كنتم وحيثما وجدتم ضباطاً وحرساً وجنوداً،وبعد، فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمة لبلدنا ووطننا أن نجري بعضاً من الإجراءات الضروية في مناصب الجيش فنفذناها متكلين على الله العلي القدير متوخين مصلحة امتنا وإعلاء كلمتها وأني آمل فيكم كما هو عهدي بكم النظام والطاعة).
فالأول من آذار عام 1956 شعلة أضاءت آفاق بلادنا بالحرية وملأت قلوبنا بالإيمان بهذا الثرى الطيب وقيادته الحكيمة الشجاعة وزرعت فينا نبتة ما تزال ازهارها تفوح بشذى الكرامة والمجد والفخار لأمة العرب تتنفس عبيرها مع اطلالة كل يوم جديد ومستقبل واعد، فكان التعريب فاتحة خير لأمة العرب لتنهض من سبات طويل واستعمار تعددت اشكاله.
وباستعراض احداث تلك الأيام حول القرار الشجاع لجلالتهِ ومجريات تلك الأحداث التي شهدت إزاحة القيادة الأجنبية وجلاء الضباط الانجليز والخلاص من آخر وأهم صور الاستعمار، الذي لم يخطر بباله مثل هذا القرار نرى فيه اروع الصور للتصميم والصرامة في اتخاذ القرارات التي تخدم الأمة.
ففي صباح يوم 29 شباط 1956 وصل الملك الحسين الى الديوان الملكي في ساعة مبكرة مرتدياً بزته العسكرية وفي عينه تأهب وتحفز وتحد للزمن ليلتقي يومها رئيس الأركان وبدأ جلالته حديثه مستوضحاً منه عن رأيه في تعريب قيادة الجيش العربي، وكان رد جلوب أن هذه المسألة ليست بالسهولة ويقول الحسـين في كتابه مهنتي كملك: (ولما كنت خادماً للشعب فقد كان علي ان اعطي الأردنيين مزيداً من المسؤوليات وكان واجبي ايضاً ان اقوي ثقتهم بأنفسهم وان ارسخ في اذهانهم روح الكرامة والكبرياء القومي لتعزيز قناعتهم بمستقبل الأردن وبدوره ازاء الوطن العربي فالظروف والشروط كانت إذن ملائمة لإعطائهم مكاناً اكثر اهمية في تدبير وادارة شؤون بلادهم لا سيما الجيش، ولكن على الرغم من ان جلوب كان قائداً عاماً للجيش فلم يكن بمقدوره ان ينسى اخلاصه وولاءه لانجلترا وهذا يفسر سيطرة لندن، فيما يخص شؤوننا العسكرية وقد طلبت مراراً من الانجليز أن يدربوا مزيداً من الضباط الأردنيين القادرين على الارتقاء الى الرتب العليا وكان البريطانيون يتجاهلون مطلبي).
وقد أثارت هذه التراكمات سـخط جلالة الملك الحسين وزادت من إصراره على انهاء خدمات القيادة الإنجليزية بأي شكل وأن هذا الأمر يجب أن يتحقق مهما كلف الثمن وفي أقرب وقت وبلا تراجع.
ومع صباح يوم الخميس الأول من آذار عام 1956 أصدر الملك الحسين أمره لرئيس الديوان الملكي في عقد جلسة لمجلس الوزراء يرأسها بنفسه ونفذ الأمر الملكي في الحال لتنتهي جلسة مجلس الوزراء الملكية بإصدار قرار يحمل الرقم 198 تقرر فيه إنهاء خدمة الفريق جلوب من منصب رئاسة اركان حرب الجيش العربي وترفيع الزعيم راضي عناب لرتبة لواء وتعيينه لمنصب رئاسة اركان حرب الجيش العربي الأردني.
تلك الخطوة الجريئة والمباركة التي اتخذها الحسين خدمة لوطنه وجيشه العربي ولأبناء أمته العربية، والشعب في الأردن لا يعلم والجيش في معسكراته ومواقعه على الحدود لا يدري بأحداث الليلة الماضية حيث سجل الحسين عملاً جباراً وفريداً في سفر التاريخ، فالفريق جلوب لم يدر بخلده او خلد غيره ان ذلك حدث او قد يحدث، جاءت الساعة السابعة والنصف من مساء ذلك اليوم حين نقلت الاذاعة الأردنية من القدس التي ظلت تذيع لمستمعيها انها بعد قليل ستذيع كلمة مهمة سيلقيها صاحب الجلالة للشعب والجيش، وترقب الجميع ماذا عسى ان يكون الخبر الى ان جاء صوت الحسـين يزف للدنيا بنبراته القوية وصلابته الوطنية النبأ العظيم في بيان تاريخي يبشر بالحرية والكرامة والسيادة.
وكما ادت خطوة تعريب قيادة الجيش الى توظيف جميع قدرات الجيش وامكانياته لخدمة امن الوطن وصون حقوقه والمحافظة على ترابه ومكتسباته من بناء مؤسسة عسكرية حديثة امتازت بالانضباط ومشاركة القوات المسلحة بالخطط التنموية وبناء الوطن والمشاركة الفاعلة لجيشه في رفد مسيرة البناء والعطاء.
هذا الجيش الذي ساهم في استقرار الكثير من الدول العربية وتمكن من بناء الروابط القوية مع جيوش المنطقة من خلال تبادل الخبرات وفتح مدارس التدريب لجميع الصنوف والمعاهد العسكرية العليا التي اهلت ضباط وافراد هذا الجيش ليكونوا في الطليعة كما ارادهم الحســين القائد.
ومنذ ذلك التاريخ وقواتنا المسلحة تحظى بالاهتمام الأكبر من القيادة الهاشمية من حيث التدريب والتسليح والتأهيل حيث شهدت القوات المسلحة تطوراً كبيراً في صنوف الأسلحة المختلفة، وتستمر المسيرة بتولي جلالة الملك عبدالله الثاني مقاليد الحكم فلقى الجيش العربي جل اهتمامه ورعايته حيث زود بمختلف الأسلحة والأجهزة المتطورة وشهد الجيش العربي إعادة هيكلة لمختلف صنوفه لتناسب المسؤوليات الملقاة على عاتقه ولتواكب هذه القوات كل جديد في مجال الإعداد والتدريب حتى غدت قواتنا المسلحة نموذجاً يحتذى في التضحية والإقدام والبذل والعطاء ويمكننا القول إن تعريب قيادة الجيش كان بحق وسام شرف يزين صدور كل الأردنيين.
وبعد، فإن أبناء هذا الوطن الغالي وهم يتفيأون ظلال هذه الذكرى العطرة فإنهم يبتهلون الى الله العلي القدير ان يشمل بمنه وكرمه المغفور له بإذن الله الحسين بن طلال بواسع رحمته ورضوانه ويستذكرون صاحب القرار الشجاع والخطوة الجريئة التي كان لها كبير الأثر في بناء هذا الوطن ويعاهدون جلالة قائدنا الأعلى الملك عبدالله الثاني المفدى أعز الله ملكه وارث الرسالة ان يبقوا درعاً للأمة وأملها في الدفاع عن الحق وصون الكرامة، يعملون بكل ما اوتوا من قوة وعزم في سبيل الحفاظ على أمن واستقرار الوطن جنوداً أوفياء ورجالاً أقوياء يسيرون على ذات النهج وذات الطريق، سائلين الله عز وجل أن يحفظ جلالة سـيدنا ابا الحسين وابن الحسين وولي عهده الأمين وان يبقيهم سنداً وذخراً للأمتين العربية والإسلامية انه نعم المولى ونعم النصير.