ابراهيم الغرابية يكتب : ما بعد حرب غزة

يربط المراقبون بين انتهاء حرب غزة وما حدث في سوريا ولبنان؛ إذ سقط نظام حكم الأسد، وانحسر تأثير حزب الله في سوريا ولبنان، وانتخب اللبنانيون رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء بعد تعطيل طويل أو تدخل سوري مباشر يحدد رؤساء لبنان. ثم أعلن أوجلان وقف العمل المسلح وفتح المجال لوقف الصراع التركي الكردي، وكذلك تسوية المسألة الكردية في سوريا.
فلسطينيا: أتاحت الهدنة دخول المساعدات الإنسانية الأساسية إلى غزة، ومع ذلك، فإن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمباني السكنية، تفرض تحديات طويلة الأمد على إعادة الإعمار والتعافي، وعلى المستوى السياسي تحمل الهدنة تداعيات سياسية على الفصائل الفلسطينية. قد ترى حماس في دورها في التفاوض على وقف إطلاق النار انتصارًا سياسيًا يعزز قاعدتها الشعبية في المقابل، يخضع دور السلطة الفلسطينية في عملية السلام للتدقيق، مما قد يؤثر على الديناميات الداخلية الفلسطينية والدفع الأوسع نحو الوحدة السياسية (.
ومؤكد أن الحرب تركت آثارًا نفسية عميقة، خاصة على الأطفال والفئات السكانية الأكثر ضعفًا. يتطلب التعامل مع اضطراب ما بعد الصدمة وتعزيز المرونة تدخلات موجهة للصحة النفسية وجهودًا لإعادة بناء المجتمع، وفي الوقت نفسه، تعكس الاحتفالات الشعبية بعد الهدنة لحظات من الوحدة والأمل.
يوفر وقف إطلاق النار استقرارًا مؤقتا لكن أسباب النزاع والحرب مازالت قائمة، وقد يمهد الاستقرار في غزة الطريق لاستئناف النشاط الاقتصادي، بما في ذلك التجارة عبر الحدود. ومن المتوقع أن تساهم القوى الإقليمية والجهات المانحة الدولية بشكل كبير في جهود إعادة الإعمار، مما قد يعزز التعاون الاقتصادي والتنمية ومع ذلك، تعتمد هذه المبادرات على استمرارية الهدنة.
لكن هل من أفق لسلام طويل الأمد؟ إن الهدنة الفورية وإن فتحت المجال للإغاثة والاستقرار لا تعالج الأسباب الجذرية للنزاع. سيتطلب تحقيق السلام الدائم مفاوضات شاملة تعالج القضايا الأساسية، بما في ذلك النزاعات الإقليمية، والحصار على غزة، والتطلعات الفلسطينية الأوسع نحو إقامة دولة.
لقد أعادت الحرب تسليط الضوء على القضية الفلسطينية عالميًا، خاصة فيما يتعلق بالمخاوف الإنسانية في غزة. قد يُحفّز هذا الاهتمام الجهود الدولية لمعالجة القضايا العالقة منذ زمن طويل، مثل الحصار على غزة، الاستيطان في الضفة الغربية، ووضع القدس الشرقية. ومن المرجح أن تكون الحرب قد غيرت المشهد السياسي الفلسطيني الداخلي.
يحتمل ان تكسب جماعات مثل حماس أو تخسر نفوذها بناءً على كيفية تقييم دورها في النزاع. كما قد تزداد الدعوات للوحدة بين الفصائل الفلسطينية مثل فتح وحماس لتقديم جبهة موحدة في المفاوضات. وربما تدفع الحرب القيادة الفلسطينية والمجتمع الدولي إلى إحياء محادثات السلام أو البحث عن أطر بديلة لحل النزاع، عبر الأمم المتحدة أو وسطاء إقليميين.
وعلى المستوى العربي؛ عززت الحرب التضامن مع القضية الفلسطينية في جميع أنحاء العالم العربي، كما يتضح من الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية واسعة النطاق. قد يؤدي هذا الشعور العام إلى الضغط على الحكومات العربية لاتخاذ مواقف أكثر صلابة لدعم الفلسطينيين. ويحتمل أن تواجه الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل أو كانت تفكر في ذلك معارضة داخلية. فقد يدفع الرأي العام هذه الحكومات إلى إعادة تقييم علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. وربما تؤدي الحرب إلى تغييرات في التحالفات في الشرق الأوسط. الدول؛ إذ يلاحظ انسحابا إيرانيا من الإقليم وتقدما تركيا. وربما يكون لتداعيات الحرب في سوريا ولبنان تأثيرات ممتدة على دول عربية أخرى.
وقد ظهرت تداعيات الحرب إقليميا على نحو سريع ومباشر في لبنان وسوريا، إذ انتخب اللبنانيون رئيسا جديدا للجمهوري ورئيسا للوزراء من غير تعطيل، وتغير النظام السياسي في سوريا بقيادة بشار الأسد لتحل محله إدارة مؤقتة لسوريا محورها "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع رئيس الهيئة، وانتهت بذلك حقبة سياسية طويلة في سوريا، لينفتح المجال لسوريا جديدة.
وقد يكون مشروعا السؤال عن مستقبل السياسات الأمريكية والغربية تجاه القضية الفلسطينية، وإن كانت هذه القوى العظمى ستعيد النظر في مواقفها وسياساتها، ربما لا تغير الحرب في مواقفها وأفكارها تجاه القضية الفلسطينية، لكنها تواجه انتقادا عالميا واسعا، ويبدو أيضا أن الجيل الجديد في هذه الدول يفكر بطريقة مختلفة كما ظهر في حراك الجامعات الأمريكية والغربية وتفاعلها مع الحرب؛ ما يشجع على الاستنتاج بأن السياسات الأمريكية والغربية تتعرض لضغوط داخلية قد تؤثر فيها وتغيرها. وظهرت مواقف دولية جديدة ذات أهمية وتأثير في السياسة العالمية؛ مثل جنوب أفريقيا.
وبشكل عام يتوقع أن يكون العمل الإغاثي وإعادة الإعمار أولوية أساسية للفلسطينيين والعرب والمجتمع الدولي، وقد تتطلب التكاليف الاقتصادية للحرب على غزة وجهودا واستثمارات كبيرة من الجهات الإقليمية والدولية. وقد تكون الصدمة التي تعرض لها المدنيون في غزة وإسرائيل ذات عواقب طويلة الأمد على جهود المصالحة وبناء السلام. لقد أكدت حرب غزة ضرورة معالجة جذور الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وبينما من المتوقع أن تكون الفترة التالية مليئة بالتحديات الإنسانية والتوترات الإقليمية، فإنها توفر أيضًا فرصة لجهود متجددة لتحقيق حل دائم.
عند التفكير في مستقبل ومآلات الأحداث والقضايا يجب النظر إلى مصالح واهتمامات الأطراف، وأول ما يجب إدراكه أن مصالح العرب لم تعد موحدة. حتى مصالح الفلسطينيين لم تعد موحدة، وأصعب من ذلك إن لم يكن أسوأ؛ فإننا حين النظر إلى الخريطة من وجهة نظر الشركاء والأشقاء المجاورين لسنا في مرآتهم أو وجهة نظرنا كما نحن في وجهة نظرنا! هذا أمر ليس غريبا أو غير متوقع، لكن المفاجئ فيه أن الفجوة بين النظرتين؛ نظرتنا إلى ذاتنا ونظرة العالم لنا فجوة كبيرة وبعيدة.
إن فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في الانتخابات يمثل بداية رحلة أخرى من التقلبات في السياسة الخارجية الأميركية. والرئيس المنتخب على استعداد لاستعادة السمات المميزة لولايته الأولى: حرب تجارية مع الصين، وتشكك عميق ــ بل وحتى عداء ــ تجاه التعددية، ودبلوماسية إبرام الصفقات التي تتسم بالتمرد على التقاليد. ويقول مستشارو ترمب إن نهجه "السلام من خلال القوة" هو ما تحتاج إليه البلاد في هذه اللحظة الحرجة.
ولكن هذه الولاية الثانية سوف تجلب تحديات جديدة ــ ليس أقلها الحربان في الشرق الأوسط وأوكرانيا، اللتان تتورط فيهما الولايات المتحدة بشدة. فقد وعد ترمب بإنهاء الحرب في أوكرانيا قبل أن يتولى منصبه، لكنه لم يقدم بعد أي خطة مفصلة؛ وخططه لإحلال السلام في الشرق الأوسط غامضة بنفس القدر.
ورغم أن خطط ترمب قد تكون غير واضحة، فقد تدخلت مجلة السياسة الخارجية في سجله الحافل وكذلك في تصريحاته وتصريحات مستشاريه لتقديم أدلة حول ما يحمله مستقبل السياسة الخارجية الأميركية. وكما أظهرت فترة ولاية ترمب الأولى، فإن نزواته الشخصية تتناقض غالبًا مع أجندة مستشاريه؛ وهذه المرة، قد يكون لديه قبضة أقوى على عجلة القيادة كرئيس للمرة الثانية ومن المرجح أن يكون لديه دائرة أكثر ولاءً من المستشارين.
لكن التحدي الرئيسي والأول لترمب والولايات المتحدة الأمريكية هو الصين. ومن المرجح أن يستمر ترمب في ولايته الثانية في تحديد الصين باعتبارها التحدي الأكبر للأمن القومي للولايات المتحدة. ولكن فيما يتصل بقضايا محددة ــ وبالتأكيد الأسلوب العام ــ فإن ولاية ترمب الثانية سوف تجلب تغييرات كبيرة.
من المحتمل أن تكون الحرب قد عززت مكانة حماس كمدافع عن حقوق الفلسطينيين في نظر العديد من المؤيدين، مما يعزز قيادتها داخل غزة. وقد تواجه الفصائل المنافسة، مثل فتح، تحديات في الحفاظ على النفوذ، خاصة في الضفة الغربية حيث قد تزداد جاذبية الموقف الأيديولوجي لحماس. لكن في المقابل فإن حماس مهددة بالحظر أو العزل والتهميش، كما أنها خسرت داعميها الرئيسيين؛ إيران وحزب الله.
تدين معظم دول العالم حركة حماس بعامة وخاصة الهجوم الذي قامت به في 7 أكتوبر 2023 وأدى إلى مقتل حوالي 1400 إسرائيلي. لكن التغير في الموقف الإقليمي والعالمي باتجاه التعاطف مع غزة قد يعمل لصالح حركة حماس.
لقد أظهرت حماس قدرة على تحمل الصراع الطويل، وواصلت المقاومة حتى اللحظة الأخيرة من الحرب. لكن مؤكد أنها خسرت جزء كبيرا من قدرتها العسكرية وقياداتها السياسية والتنظيمية، وقد يكون لاستغلالها في المواجهة مناطق السكان المدنيين أثر اجتماعي ودولي على مستقبلها، ويمكن لموقفها المقاوم أن يجتذب مزيدا من المؤيدين والمستعدين للمقاومة والتجنيد، وفي الوقت نفسه فإن مجريات الحرب ونتائجها يمكن أن تؤثر على مصداقيتها وتأثيرها الاجتماعي والسياسي. وسوف ينظر إليها قطاع كبير من الفلسطينيين على أنها المسؤول الرئيسي عن الخسائر والكوارث التي لحقت بالفلسطينيين. ويتوقع أنها سوف تواجه مزيدا من التحديات في تدبير التمويل والاستمرار في الإنفاق على كتائبها ومؤسساتها وكوادرها، هل ستبقى حماس في غزة؟ هل ستفاوض إسرائيل؟ هل سترتب أوضاعا وتسويات مع إسرائيل متفقا عليها أو متواطأ عليها من غير اتفاق؟ إن الإجابة بنعم أو لا تعتمد فقط على قدرة حماس وقوتها وليس غير ذلك، فعندما تنتهي الحرب يكون الصديق هو القوي القادر على البقاء أو المواجهة أو التهديد أو التسوية، والعدو هو الضعيف والمهزوم والعاجز. إن مستقبل حماس وقدرتها يعتمد على قدرتها على اجتذاب الدعم السياسي والتمويل وحشد المؤيدين والأنصار.