د . صالح ارشيدات يكتب : ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية: بين المبادئ والمصالح
![د . صالح ارشيدات يكتب : ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية: بين المبادئ والمصالح](/assets/2025-02-08/images/280314_1_1738988155.png)
بقلم: الدكتور صالح إرشيدات.
لا شك أن الولايات المتحدة تعد القوة العظمى الأكثر نفوذاً في العالم، وهي التي بنت دستورها على أسس الحرية وحقوق الإنسان، إلا أن الواقع السياسي يكشف عن تناقضات كبيرة في تطبيق هذه المبادئ، خاصة عندما تتعارض مع المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية. هذا التناقض ليس مجرد استثناء، بل يبدو أنه جزء من منهجية متكررة تتبعها الإدارات الأميركية المتعاقبة، حيث تغلب البراغماتية السياسية على المبادئ المعلنة.
1. البراغماتية السياسية على حساب المبادئ
الخطاب الأميركي الرسمي غالبًا ما يتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن الممارسة العملية تظهر أن المصالح القومية تتجاوز هذه المبادئ عند الضرورة. فحين تخدم المبادئ الأميركية أهداف السياسة الخارجية، يتم التمسك بها، ولكن عندما تتعارض مع المصالح الاستراتيجية، يتم تجاوزها أو التلاعب بها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك دعم واشنطن لأنظمة غير ديمقراطية في بعض الدول إذا كان ذلك يخدم مصالحها، في حين تدعو إلى تغيير الأنظمة التي تعارض سياساتها.
السياسة الأميركية تميل إلى استخدام أساليب الضغط والتهديد في تعاملها مع الدول الأخرى، حتى لو كان ذلك يتعارض مع القيم التي تدّعي الدفاع عنها. العقوبات الاقتصادية، التدخلات العسكرية، والتحريض السياسي أصبحت أدوات معتادة لتحقيق الأهداف الأميركية، حتى على حساب الشعوب التي تعاني من هذه السياسات.
2. التفاوت بين السياسة الداخلية والخارجية
الدستور الأميركي يضع قيودًا صارمة على السلطة داخل الولايات المتحدة، حيث يحمي الحريات والحقوق الفردية، لكن هذه القيود لا تنطبق بنفس الدرجة على السياسة الخارجية. وهذا يمنح الرؤساء حرية كبيرة في التصرف، حيث يمكنهم تجاوز المبادئ الداخلية عند التعامل مع دول أخرى.
هذه الازدواجية تسمح للرؤساء الأميركيين باتخاذ قرارات تتعارض مع القيم الديمقراطية عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، مثل دعم انقلابات عسكرية، أو التدخل في شؤون دول أخرى، أو حتى تجاهل قرارات الأمم المتحدة عندما لا تخدم المصالح الأميركية.
3. الرغبة في فرض الهيمنة الدولية
لطالما سعت الولايات المتحدة إلى الحفاظ على موقعها كقوة عظمى، وهذا يدفعها إلى تبني نهج القوة والغطرسة في كثير من الأحيان. فعندما تشعر واشنطن بأن دولة ما تحاول الحد من نفوذها، تلجأ إلى استخدام الأدوات المتاحة لها، سواء كانت عقوبات اقتصادية، أو ضغوط دبلوماسية، أو حتى تهديدات عسكرية.
تظهر هذه الاستراتيجية بوضوح في تعامل الولايات المتحدة مع المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، حيث تتجاهل القرارات التي لا تصب في مصلحتها، بل وتستخدم نفوذها لتعطيل بعض القرارات عبر حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. كما أن الانسحاب من الاتفاقيات الدولية أصبح أداة سياسية تلجأ إليها واشنطن عند عدم توافق هذه الاتفاقيات مع سياساتها، مثل انسحاب إدارة ترامب من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية.
4. تأثير المجمع الصناعي-العسكري والمصالح الاقتصادية
لا يمكن فهم السياسة الأميركية دون النظر إلى التأثير الكبير الذي تمارسه المؤسسات الاقتصادية الكبرى، وخاصة المجمع الصناعي-العسكري، ولوبيات السلاح والطاقة. هذه الجهات تلعب دورًا أساسيًا في توجيه السياسة الخارجية، حيث تسعى إلى ضمان استمرار التدخلات الأميركية لتعزيز أرباحها.
غالبًا ما تدفع هذه المصالح الرؤساء إلى اتخاذ قرارات تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في بعض المناطق، وذلك لتبرير الإنفاق العسكري الضخم. كما أن سياسات الضغط الاقتصادي، مثل العقوبات المفروضة على بعض الدول، تخدم في كثير من الأحيان الشركات الكبرى التي تستفيد من إعادة تشكيل الأسواق العالمية وفقًا للمصالح الأميركية.
5. ازدواجية المعايير في تطبيق الشرعية الدولية
تعتمد الولايات المتحدة على القوانين الدولية عندما تخدم مصالحها، لكنها تعمل على تعطيلها أو تجاوزها عندما تتعارض مع أجندتها. على سبيل المثال، تدعو واشنطن إلى احترام سيادة الدول عندما يكون ذلك في مصلحتها، لكنها لا تتردد في التدخل في شؤون الدول الأخرى إذا رأت أن ذلك يخدم أهدافها.
هذه الازدواجية تتجلى بوضوح في تعامل الولايات المتحدة مع قضايا مثل الحروب والصراعات الدولية، حيث تدين بعض الأنظمة على انتهاكات حقوق الإنسان بينما تغض الطرف عن حلفائها الذين يرتكبون نفس الانتهاكات. كما أن استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة سياسية يظهر كيف يتم توظيف القوانين الدولية لخدمة الأهداف الأميركية.
6. الدور الانتخابي والدعم الداخلي
لا تقتصر هذه السياسات على اعتبارات خارجية فقط، بل تلعب الاعتبارات الداخلية دورًا كبيرًا في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية. فغالبًا ما يستخدم الرؤساء الأميركيون استعراض القوة على الساحة الدولية لكسب التأييد الداخلي، خاصة خلال فترات الانتخابات أو عند مواجهة أزمات سياسية داخلية.
على سبيل المثال، قد يلجأ الرئيس إلى تصعيد التوترات مع دولة معينة أو اتخاذ موقف متشدد ضد منظمة دولية لكسب دعم شرائح معينة من الناخبين. هذه الاستراتيجية تساعد في تعزيز صورة الرئيس كزعيم قوي، حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات الدولية.
الخلاصة: المصالح فوق المبادئ
في النهاية، يمكن القول إن الولايات المتحدة لا تحكمها المبادئ وحدها، بل تخضع سياساتها لحسابات المصالح الاستراتيجية. فرغم أن الدستور الأميركي يؤكد على قيم الحرية وحقوق الإنسان، إلا أن السياسة الخارجية غالبًا ما تتجاوز هذه القيم عندما تتعارض مع أهداف واشنطن الجيوسياسية.
هذا النمط من السلوك ليس جديدًا، بل هو جزء من منظومة تحكمها المصالح، حيث يتم توظيف المبادئ عند الحاجة، ويتم تجاوزها عندما تصبح عقبة أمام تحقيق الهيمنة والحفاظ على النفوذ. لذلك، فإن الحديث عن التزام أميركا بالقوانين الدولية يظل مشروطًا بمدى توافق هذه القوانين مع أجندتها السياسية.