بشار جرار : ترامب الثالث
هذه دعوة جادة في إطار ما تسمح به الأصول والأعراف الصحفية والدبلوماسية للتعرف على ترامب الثالث! ظن البعض حسنا أو سوءً أن الرئيس السابع والأربعين لأمريكا هو ترامب الثاني، الرئيس دونالد جيه ترامب، القديم الجديد. ما جانب أولئك من الصواب هو إغفال السنوات الأربع التي غادر فيها البيت الأبيض دون استضافة مجاملة للرئيس الجديد حينها جو بايدن ودون حضور تنصيبه وسط رفاقه في نادي الرؤساء الأمريكيين، ومن أهمهم الرئيسان الجمهوري جورج بوش الابن، والديموقراطي باراك حسين أوباما.
حرب البقاء التي واجه فيها عشرات الملاحقات القضائية والمحاكمات، وحملة دهم وتفتيش لا سابق لها في التاريخ حتى في دول العالم الثالث التي تعرضت لها أدراج خزانة ملابس سيدة أمريكا الأولى ميلانيا ترامب، حرب البقاء التي خاضها في مواجهة حادثتي إغتيال إحداها كانت على الهواء مباشرة فيما وصف «معجزة الملّيميتر» أو ثُمن بوصة عن الدماغ مخلّفة أذنا جريحة وووجها داميا، هذه الحرب أكسبت ترامب خبرات ولاية ثالثة، لكن ليس كما هو النموذج البريطاني العريق فيما تعرف «حكومة الظل».
ما يتعامل معه العالم الآن -داخليا وخارجيا- هو ترامب الثالث الطامح لولاية ثالثة ورابعة مازحا، والعامل بجد منذ اليوم الأول للتأسيس لامتداد أسرته وليس فقط حركته «ماغا» اختصارا لجعل أمريكا عظيمة مجددا. العصر الذهبي الذي وعد به ترامب الثالث في «يوم التحرير» بحسب تعبيره في العشرين من يناير الماضي، بدأ كما الإعصار ومرة أخرى -داخليا وخارجيا- لم يسلم منه حتى «القريب» جغرافيا ككندا والمكسيك، وعسكريا سياسيا اقتصاديا، كالناتو والاتحاد الأوروبي وبريكس وروسيا والصين، ومنظمات دولية كمنظمة الصحة العالمية والأونروا. ومن يدري قد لا يسلم حتى ضيفه الدولي الأول بنيامين نتنياهو بعد غد الثلاثاء من الإحراج على الهواء مباشرة! يعلم رئيس وزراء إسرائيل أن مصيره السياسي والشخصي لا مصير حكومته أو اليمين ويمين اليمين في إسرائيل فقط معلّق بجرة قلم أو بضع لمسات بإصبعين عبر «تروث سوشال» ليعلن مثلا تمسكه بقيام دولة فلسطينية ثمن تطبيع وسلام عربي إسلامي.
في ذروة جموح ترامب في «الولايتين» السابقتين داخل البيت الأبيض وخارجه، حذر الحزب الديموقراطي خاصة الصقور الأكثر تطرفا من جماعة اليسار الأوباميّ العولمي، حذّروا من اعتماد ترامب المشروع 2025 الصادر عن مؤسسة «هيريتي ج» التي تمثل المحافظين أكثر ما تمثل الجمهوريين عموما. ترامب أنكر ذلك مرارا وكذلك فعل نائبه جيه دي فانس رغم تقديمه خطيا المشروع الذي يقع في تسعمئة صفحة موزعة على ثلاثين فصلا تشمل كل ما يلزم الإدارة من قرارات
في القضايا الأمنية والصحية والسياسية والاقتصادية-المالية والاجتماعية والثقافية، «البعبع» الانتخابي كان الإجهاض والهجرة، لكن الحديث الأن يدور حول ما هو أكثر دلالة من تصورات مراكز بحثية -وتلك مسألة مشتركة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي وجميع الرئاسات الأمريكية- الحديث يشير إلى تصور عام يذكّر بشخصيات وازنة من المحافظين الجدد المعروفين اختصارا ب «نيو كونز»، في مقدمتهم إليوت أبرامز العقل المدبر لحربي العراق وأفغانستان والساعي إلى ضرب إيران أو إسقاط نظام الملالي، وشن حرب عالمية على الإرهاب، ودعم اليمين الديني والقومي في أمريكا وإسرائيل.
رغم انتقاده للمحافظين الجدد والجمهوريين بالاسم المعروفين اختصارا ب «راينوز» والدولة العميقة وما وصفه «مستنقع واشنطن» فإن هجومية ترامب الصقورية متعددة الاتجاهات التي لم يوفر فيها حتى أقرب الحلفاء، تشير إلى أن ترامب الثالث لم يكشف أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة عما كان يعد له في السنوات الأربع في مارلاغو، مقر إقامته في فلوريدا. لم يذكر غرينلاند ولا بنما مثلا ولا تحويل كندا إلى الولاية الواحدة والخمسين! تلك مشاريع ليس وليدة اللحظة. ثمة ما كان يتم الإعداد له بروية وعمق بشكل جماعي وربما مؤسسي وليس فرديا بدا وكأنه يسعى فقط إلى إيقاف حربي أوكرانيا وغزة.
الخلاصة، أن «العصر الذهبي» بدأ بإعصار قد يليه هدوء، خلافا لما يقال عن «الهدوء الذي يسبق العاصفة». قد يكون إعصارا طوفانيا يُحدث تسونامي ينتهي بإحدى النهايات الثلاثة مع ترامب الثالث: انعزالية أمريكية، تعددية قطبية، أو -وهذه الأرجح- استرداد وتوسعة وتثبيت أحادية القطبية الأمريكية. الأخيرة يتعلق مصيرها وربما مصير بقاء مجلسي الكونغرس بأيدي الجمهوريين بعد عامين، إن تمكن ترامب الثالث من إبرام سلام حار بين المجمعين العسكري والتقني في أمريكا القرن الواحد والعشرين، عبر «صفقات قرن» لا يمكن أن تمر ما لم تبدأ أمريكيا، من واشطن دي سي.. ــ الدستور