أ. د. هيثم العقيلي المقابلة يكتب : الثقافة و الحضارة و المدنية و البداوة
اختلطت هذه المفاهيم بحيث اصبحت مادة دسمة لتغذية الاختلاف على منصات اجتماعية على امتداد وطننا العربي و هذه تذكرني بموضوع شبيه وضحته في مقال سابق و هو من هم العرب و هل تعتبر شعوب ما عربية ام غير عربية. يعود ذلك الاختلاف الى استعمال هذه المصطلحات بغير تعريفها الاصلي فتستبدل الحضارة بالمدنية بالثقافة في الخطاب حتى على مستوى النخب مما يؤدي لخلط على مستوى العامة.
مقومات الحضارة هي مكون غير محسوس (روحي اخلاقي) و هو الثقافة و مكون محسوس (مادي مكاني) و هو المدنية و الريفية و البداوة و أما المكون الثالث و الرابع فهما المجتمع و الادارة السياسية و الذي تختلف في بساطتها او تعقيدها من البداوة الى الريف الى المدنية.
الثقافة هي آلية تفكير المجتمع و سلوكه القائمة على قيمه و عاداته و تقاليده و موروثه و تراثه و تاريخه المشترك و تعبر عن ذاتها بالادب و الفنون و الاخلاق و تعتبر اللغة هي عمودها الفقري و اهم مقوم لهويته الثقافية لانها اداة التواصل بين افراد المجتمع و كذلك مع محيطه.
لذلك نجد ثقافة بدوية و ثقافة ريفية (فلاحية) و ثقافة مدنية لكل خصائصها و سماتها يشكلها الموروث الاجتماعي و الحاجة للاخرين و الظروف المكانية التي نشأت بها. فتميل الثقافة البدوية لإعلاء الحرية الفردية و القبلية و التحرر من قيود القانون و قيود المكان و لكن ضمن انتماء قبلي يعلي من الفروسية و القتال و الشجاعة و يقلل من قيمة العمل و الحرف بالتالي فهي اقرب الى منطق الصائد-لاقط و هو احد أشكال التطور البشري.
الثقافة الفلاحية بالمقابل تعلي من قيمة العمل و الصبر لانهما ضرورة فالفلاح (يبذر ثم يحرث ثم ينتظر المطر ثم الحصاد ثم المحصول) بالمقابل فإن الاستقرار و الحاجة للآخرين تفرض نبذ القتال و الغزو.
الثقافة المدنية تقوم على مجتمع بهويات مختلفة (دينية، طائفية، عرقية ..الخ) بالتالي تضعف القبلية التي تميز الثقافة البدوية و الريفية و تصبح الضرورة لقبول الآخر و نبذ العنف و التعايش بناءا على مصالح مشتركة و خصوصية اعلى للفرد لذلك نجد ان التجارة و الحرف تزدهر في المجتمع المدني.
أما العامل المكاني المحسوس فالتباين فيه واضح. البداوة تقوم على الترحال و التنقل ضمن مناطق نفوذها حيث الكلا و الماء و لذلك فإن الانتماء للمكان اضعف و كذلك الميل للعمل فالماء و العشب يتواجدان دون عمل و أما الرعي فعادة ما يخصص له رعاة و يبقى اغلبية المجتمع بلا عمل حقيقي فتزدهر الميل للتدريب و القتال و الترفيه بالصيد و المغامرة. هنا انبه الى ان توافر الماء ليس هو الحافز للبداوة و الا لكانت استقرت حول الانهار و انتهت البداوة و لكن الحافز هي الثقافة البدوية القائمة على البساطة و التحرر من القيود.
بالنسبة للفلاحة و الريف فإنها كانت المرحلة الثانية من التطور البشري و التي وفّرت للانسان الامن الغذائي و وفرة المحصول و هذه احتاجت الى الاستقرار و العمل و الصبر و مجتمع يحمي ذاته و برايي ان هذه المرحلة رافقها تدجين الحيوانات لذلك تجاورت الريفية مع البداوة في صراع احيانا و في توافق احيانا اخرى و لكن كليهما تطور من الصائد لاقط.
اما المدنية فإن عوامل الانتاج بها تعددت بين التجارة و الصناعة و الحرفية و الزراعة و بالتالي فإن الاستقرار فيها كان جاذبا و اصبحت وسائل الترفيه اكثر وفرة.
الادارة السياسية لعاملي التفكير (الثقافة) و الانتاج اختلفت في المدنية عنها في البداوة و الريفية فالاولى مجتمع متعدد الاصول و الانتماءات و الطبقات و الثقافات الفرعية احتاج للتعايش من خلال نبذ العنف و نقل الادارة و التنظيم و العنف المشروع للسلطة السياسية التي احتاجت ان تكون اكثر تعقيدا و متعددة الطبقات من السلطة السياسية الى رجال الدين الى الاداريين الى مؤسسات فرض القوانين و الانظمة.
في حين نجد ان الادارة السياسية في البداوة و الريفية ابسط و تقوم على رأس القبيلة (الشيخ او المختار) و مجموعة وجهاء فالمجتمع اكثر تجانسا و الثقافة تعتمد على نفس القيم و الموروث و عوامل الانتاج شبه موحدة (الرعي او الزراعة).
مما سبق نجد ان هنالك حضارة مدنية و حضارة ريفية و حضارة بدوية تختلف في التعقيد بناء على عوامل التفكير و عوامل الانتاج و تعبر عن ثقافتها كل بطريقته فالبدوية تعبر من خلال الشعر و الريفية من خلال السردية و كليهما شفوي غير مكتوب تتناقله الاجيال و تضيف او تنقص او تعدل عليه بما يعلي من سمعة و تاريخ المجتمع القبلي الذي يمثل الهوية الحقيقية لكليهما. في حين ان الحضارة المدنية تطورت الى ثقافة مكتوبة تنقل المعارف فكان حظها في البقاء و الدوام افضل و هذه بدأت بالألواح الطينية في اول حضارة مدنية و هي السومرية تلاها الهيروغليفية المصرية الى أن تم اختراع الحروف في اوغاريت لتبدا اللغات المكتوبة بالحروف.
كذلك فإن الاستقرار و وفرة الانتاج اتاح التعبير عن الثقافة بالفنون و التي يبدو انها نشأت في البداية لاسباب دينية.
في ختام هذه العجالة ارى أن البداوة و الريفية لم تعد موجودة بشكلها الحقيقي و انما بقي شئ من مظاهرها فالان لا توجد قبائل الرحل و اما الزراعة فتعتمد على الالات اكثر و المجتمعات العربية في اغلبها اصبحت ضمن المدنية مع بعض مظاهر الثقافة البدوية و الفلاحية التي تميل لها النفوس للترفيه او للحفاظ على هوية ثقافية تميز هوية فرعية عن أخرى و هنا لا بد أن أشير ان مقومات الهوية الثقافية هي اللغة و التاريخ و الموروث الاجتماعي و الجغرافيا و التي جميعا تجتمع فقط في الهوية العربية اما مظاهر الهوية الثقافية فتختلف من دولة لاخرى و مجتمع لآخر و ابرز هذه المظاهر هي اللباس و الطعام و اللهجات و الفنون. أي أنه بنظرة بسيطة فإن ما يجمع الشعوب في عالمنا العربي هو مئات الأضعاف اكثر مما يفرق.