د. احمد يعقوب مجدوبة : ربّما أفضل تعريف!
لستُ متخصصاً في شؤون السياسة، لكنني مُهتمٌ بها، من باب الثقافة أولاً، والتي تُحتّم على المرء «معرفة شيء عن كل شيء»، ومن باب أثر الأفعال فيها على قضايا الناس وأحوالهم.
ومعظم أثرها أضحى يصبّ في جانب السلب أكثر منه في جانب الإيجاب، مع الأسف.
أو ربما كان الأمر دوماً كذلك. قلّة من أفعال السّاسة تروق للناس؛ وقلة منهم ينحازون للصالح العام ولخير الشعوب.
لا بل لقد أصبحت كلمة «سياسيّ» مرتبطة إما بالشخص المبهم المراوغ المتحدث بالألغاز المتقن لفن التلميح، أو الصّلِف المُزاود المتحرر من لباقة التعبير ولياقة الخطاب.
بَيْدَ أننا نود هنا تسليط الضوء على تعريفين للسياسة لهما انعكاس على ممارستها، فالأفراد غالباً ما يقومون بالأفعال بناءً على فهمهم للأمور، وإن كانوا أحياناً يُطوّعون المفاهيم خدمة للممارسات.
التعريف الأول، وهو تعريف دارج، مفاده أن «السياسة هي فنّ الممكن». ونُخمّن أن المقولة هذه منسوبة لبسمارك.
وللتعريف هذا محاسن ومساوئ.
من محاسنه تبيان أنّ السياسي لا ينجح كلّ مرة في تحقيق المأمول. وقد يُقصد أن النجاح نسبي وليس مطلقاً؛ يحقق جزءاً من المطلوب لا كلّه؛ فمعظم ما يتم فعله له علاقة بطرف أو أطراف قد يكون لها مطامح أو مصالح مضادة؛ وبالتالي فإن التنازل هو جزء لا يتجزأ من الفعل السياسي.
ولا بأس في مثل هذا الفهم، إذا كان السياسي المعني حسن النية كفؤاً باذلاً أقصى جهده.
من مساوئ التعريف أنه يُستخدَم لتبرير عُقم الأداء والفشل في تسجيل النجاحات، الذي يرتبط بساسة «تسيير الأعمال» الذين يديرون الأمور بطريقة روتينية تخلو من الحماسة والكاريزما والشغف.
ولعلّ مثل هذا الأداء المخيب للآمال نابعٌ من «واقعية» التعريف ذاته والذي يضع لمن يؤمن به ويمارسه حداً أو سقفاً منخفضاً للتوقعات. وغالباً، من يكون سقف توقعاته منخفضاً يأتي أداؤه منخفضاً.
وهذه سمه متأصلة في فكر المدرسة «الواقعية».
أما التعريف الثاني، والذي أجده أكثر دقة في التعبير عن الفعل السياسي المنشود، والذي أتيتُ عليه مؤخّراً أثناء قراءة كتابٍ لعبد الرحمن الكواكبي، فيرى السياسة على أنها «إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة».
الكثير يمكن أن يقال هنا عن الفروقات ما بين التعريفين، مع أن المحاسن المتعلقة بالتعريف الأول متضمنه في الثاني، ومن ضمنها بُعدٌ من الواقعية في التعامل مع الأمور.
من أهم الفروقات أن التعريف الثاني يتضمن العنصرين الأساسيين لأي أداء ناجح ومميز: «الإدارة» و"الحكمة».
والحقيقة المهمة هنا أن لا «فن»، كما في نص التعريف الأول، ولا «إدارة»، كما في نص التعريف الثاني، ينجحان دون أن تؤطرهما وتوجههما الحكمة. فالحكمة هي عصارة المعرفة والتجربة؛ والحكمة هي صفة أو سمة إيجابية دوماً؛ وهي أرفع سمات القيادة.
والسياسي الذي لا يتمتع بالحكمة هو «قائد» فاشل.
وبَعد، فلا بأس أن نقول «السياسة هي فن الممكن»، إذا كان المقصود بذل أقصى الجهود بإخلاص والاتيان بالنتائج المعقولة؛ لكن الأفضل والأدق في تقديرنا، القول بأنها «إدارة الشؤون العامة بمقتضى الحكمة» لما في هذا التعريف من دلائل وإيحاءات سامية.