الأخبار

د. حمد الكساسبة : التوظيف الرقمي: مسار داعم لسوق العمل الأردني

د. حمد الكساسبة : التوظيف الرقمي: مسار داعم لسوق العمل الأردني
أخبارنا :  

في ظل ما يشهده سوق العمل الأردني من تحديات متزايدة، يصبح من الضروري طرح تساؤلات جدّية حول كفاية النموذج التقليدي في التوظيف، وقدرته على استيعاب طموحات الشباب وتخفيف معدلات البطالة. فالنمو الديمغرافي المتسارع، إلى جانب التباطؤ النسبي في التوسع القطاعي، يضع الدولة أمام خيار استراتيجي: إما التمسك بالأنماط التشغيلية التقليدية، أو الانخراط بوعي في اقتصاد رقمي يفتح آفاقًا جديدة للتشغيل والابتكار.

 

الاقتصاد الرقمي لا يُقدَّم بوصفه بديلاً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية القائمة، بل باعتباره مسارًا موازيًا ومكملًا، يُعيد تشكيل العلاقة بين الكفاءة والفرصة. فالتوظيف الرقمي، الذي يشمل العمل عبر الإنترنت في مجالات مثل البرمجة، التسويق، التصميم، والخدمات اللوجستية الرقمية، أصبح أحد الحلول المرنة التي تتبناها الحكومات في العالم لتوسيع المشاركة الاقتصادية دون الحاجة لتوسعات تقليدية في الجهاز الحكومي أو استثمارات ضخمة في البنية المادية.

 

التجارب الدولية تؤكد فاعلية هذا التوجه. ففي الفلبين، يشكّل اقتصاد التعهيد الرقمي مصدر دخل يفوق 30 مليار دولار سنويًا، ويشغّل أكثر من 1.5 مليون فرد. الهند طوّرت إطارًا مؤسسيًا وتشريعيًا خاصًا لدمج هذا النوع من العمل ضمن الاقتصاد الوطني. أما مصر، فقد أطلقت برنامج "مستقبلنا رقمي" بالتعاون مع البنك الدولي، لتدريب الشباب على المهارات الرقمية وربطهم بمنصات العمل الحر العالمية، وهو ما مكّن الآلاف من تحسين دخلهم وفرصهم دون مغادرة محافظاتهم. المغرب أيضًا شهد نموًا ملحوظًا في صادرات تكنولوجيا المعلومات بفضل دعم الشركات الرقمية الناشئة.

 

الأردن ليس بعيدًا عن هذا السياق. فقد أطلقت الحكومة، بدعم من شركاء دوليين، مبادرات مثل مشروع "الشباب والتكنولوجيا والوظائف"، التي تهدف إلى تدريب الشباب في المحافظات على مهارات الاقتصاد الرقمي. كما بدأت منصات مثل "B.O.T" في خلق فرص حقيقية لدخل رقمي للفئات التي يصعب دمجها في سوق العمل التقليدي.

 

ومن النماذج العملية التي تُجسد التوظيف الرقمي المرن تطبيقات النقل والتوصيل مثل "أوبر" و"كريم"، والتي أصبحت منصات وسيطة بين مقدم الخدمة والمستهلك دون الحاجة إلى تدخل مباشر من أصحاب العمل التقليديين. هذا النمط من الاقتصاد، المعروف باقتصاد العمل المرن أو المؤقت (Gig Economy)، أتاح لفئات واسعة من الشباب، وخصوصًا من لا يمتلكون مهارات تقنية عالية، الدخول السريع إلى سوق العمل وتوليد دخل مستقل باستخدام مواردهم الخاصة كالمركبة والهاتف الذكي. وقد أظهرت تجارب دولية، مثل الولايات المتحدة والمكسيك ومصر، أن هذا النمط من التوظيف يساهم في امتصاص جزء من البطالة المؤقتة، ويوفّر مرونة تشغيلية مطلوبة في ظل تقلبات السوق، رغم الحاجة المستمرة إلى تنظيم العلاقة القانونية وضمانات الحماية الاجتماعية للعاملين ضمن هذه المنصات.

 

ورغم هذه المبادرات، لا تزال مساهمة الاقتصاد الرقمي التوظيفي في هيكل سوق العمل الأردني محدودة. ويعود ذلك إلى غياب مظلة تنظيمية موحدة، ونقص الوعي لدى شرائح واسعة من الشباب بأهمية هذا النوع من العمل، فضلًا عن محدودية الربط المؤسسي بين المهارات الرقمية المطلوبة في السوق والمنصات التعليمية والتوظيفية المتاحة.

 

من الناحية الاقتصادية، يوفر التوظيف الرقمي مزايا متعددة. فهو يقلل من تكاليف الدخول إلى سوق العمل، ويزيد من كفاءة استخدام الوقت والموارد، كما يرفع من مرونة القوى العاملة وقدرتها على التكيّف مع متغيرات السوق. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن تحسين البنية المؤسسية لهذا النوع من التوظيف قد يساهم في خفض معدل البطالة بين الشباب بنسبة تتراوح بين 3% و5% خلال فترة قصيرة نسبيًا، إذا ما تم دمجه في السياسات الوطنية للتشغيل.

 

التوظيف الرقمي لا يشكّل بديلًا عن القطاعات التقليدية، لكنه يُعد مسارًا داعمًا ومكملًا لها. ويمكن أن يلعب دورًا محوريًا في توسيع قاعدة المشاركة الاقتصادية، خصوصًا للنساء والشباب في المناطق الطرفية، والذين يواجهون صعوبات في الالتحاق بالأنشطة الاقتصادية المتركزة في المدن الكبرى. ولضمان فعالية هذا المسار، يوصى بوضع إطار تنظيمي واضح، يتضمن منصة وطنية موثوقة للعمل الرقمي، وحوافز لتشجيع الشباب على اكتساب المهارات الرقمية، وربط هذا النمط من التوظيف بسياسات التعليم المهني وسوق العمل.

 

في المحصلة، فإلى جانب النمو الاقتصادي الحالي الذي سيكون قادراً، على توليد فرص عمل داخل النشاطات التقليدية لتقليل البطالة، يبرز التوظيف الرقمي كمسار مكمل يضمن إدماجًا أوسع، وخاصة للنساء والشباب في المحافظات، ويربط بين الكفاءة والفرصة في بيئة أكثر عدالة ومرونة.

مواضيع قد تهمك