الأخبار

حسام الحوراني : بناء منظومة عربية للابتكار في الحوسبة الكمومية

حسام الحوراني : بناء منظومة عربية للابتكار في الحوسبة الكمومية
أخبارنا :  

في زمن تتسارع فيه خطوات البشرية نحو المجهول العظيم، يقف العالم على حافة ثورة معرفية لا تشبه ما سبقها، تقودها الحوسبة الكمومية ذلك الحلم القديم الذي بدأ يتحقق بصمت، ليعيد تشكيل كل شيء نعرفه عن العلم والتقنية والاقتصاد وحتى الحياة نفسها. وبينما تتسابق دول العالم الكبرى لامتلاك مفاتيح هذه التقنية الخارقة، تقف الدول العربية أمام سؤال مصيري: هل سنكون مجددًا في مقعد المتفرجين؟ أم سنصعد إلى المسرح لنصوغ قدرنا ونحجز مكاننا في الصفوف الأولى من التاريخ؟
الحوسبة الكمومية ليست مجرد تطور تقني آخر، بل قفزة في طبيعة التفكير نفسها. إنها لغة جديدة للعالم، تمكّن من حل مشاكل تعجز عنها أقوى الحواسيب الكلاسيكية، وتفتح آفاقًا غير مسبوقة في محاكاة الجزيئات، وتحليل البيانات الضخمة، وفك تشفير الألغاز المستعصية، وتحسين الذكاء الاصطناعي. إنها بوابة نحو اكتشاف أدوية جديدة، ونماذج مناخ دقيقة، وتشفير لا يُخترق، وخوارزميات تُعيد تشكيل الصناعات. باختصار، من يملك زمام الحوسبة الكمومية، سيمتلك مفاتيح المستقبل.
لكن الحلم لن يتحقق بالتمني، ولا بالإعجاب من بعيد. ما نحتاجه اليوم هو بناء منظومة عربية للابتكار في هذا المجال، تبدأ من الوعي وتنتهي بالسيادة. منظومة تتكوّن من أركان أربعة: الإرادة الجادة، والاستثمار الاستراتيجي، والتعليم المتقدّم، والتعاون الإقليمي. علينا أن نُدرك أن السباق قد بدأ، وأن الهوة المعرفية لا تُردم إلا بفعلٍ جريء، وبرؤية واضحة، وبإيمان بأن العقل العربي قادر، لا أقلّ شأنًا من غيره، إذا توفرت له البيئة المناسبة.
الإرادة الجادة هي المفتاح الأول. يجب أن تعي الحكومات العربية أن دخول عالم الحوسبة الكمومية ليس ترفًا علميًا، بل ضرورة أمنية واقتصادية واستراتيجية. لا يمكن لدولة تطمح إلى قيادة المستقبل أن تكتفي بالبنية التحتية التقليدية، أو أن تغرق في الاستهلاك الرقمي دون أن تنتج أدواتها. دعم الأبحاث الكمومية يجب أن يكون بندًا دائمًا في ميزانيات البحث العلمي، لا بندًا هامشيًا يواجه التقشف.
ثم يأتي الاستثمار، لا باعتباره إنفاقًا، بل استشرافًا. يجب تأسيس صناديق عربية مشتركة لتمويل المشاريع البحثية والشركات الناشئة في مجال الحوسبة الكمومية، مع تحفيز القطاع الخاص للدخول شريكًا لا ممولًا فقط. الجامعات العربية يجب أن تتحول إلى مراكز للابتكار، لا مجرد قاعات دراسية. يجب أن نبتعث طلابنا لدراسة هذه العلوم العميقة، ونبني شراكات مع المراكز العالمية، ونُعيد من في الخارج من عقولنا المهاجرة.
أما التعليم، فهو التربة التي يُزرع فيها كل شيء. يجب تحديث المناهج في الفيزياء والرياضيات وعلوم الحاسوب لتشمل مبادئ الحوسبة الكمومية منذ المراحل المبكرة. ويجب توفير منصات تدريب رقمية باللغة العربية، وتأسيس مختبرات في المدارس والجامعات تتيح للطلبة تجربة النماذج الأولية لهذه التقنية. نحتاج إلى جيل يرى في ميكانيكا الكم ليس صعوبة غامضة، بل فرصة لفهم الكون بلغة جديدة.
وأخيرًا، يأتي التعاون العربي. لم تعد مفاهيم السيادة الوطنية تنفع في عالم التقنية العابرة للحدود. يجب إنشاء تحالف عربي للبحث والتطوير في الحوسبة الكمومية، يضم العقول والجامعات والمؤسسات من المحيط إلى الخليج. مركز إقليمي مشترك يجمع الطاقات، ويوحّد الجهود، ويقدّم نموذجًا يُفخر به على الساحة العالمية. نحن بحاجة إلى منصة تشبه «CERN» الأوروبية، لكن بوجه عربي، تنطلق من قيمنا، وتتحدث لغتنا، وتخدم شعوبنا.
في قلب كل ذلك، يكمن الإيمان. الإيمان بأننا نستحق أن نكون روّادًا لا مقلّدين، وأننا قادرون على الانتقال من هوامش الابتكار إلى مركزه، ومن الاستيراد إلى الإبداع. الحوسبة الكمومية ليست حكرًا على الغرب أو الشرق، بل مجال مفتوح لمن يجرؤ على الدخول إليه. وإذا بدأنا الآن، بخطوات صادقة، فإن المستقبل قد يذكر أن العرب، كما قادوا يومًا ثورة العلم في القرون الوسطى، عادوا اليوم ليقودوا ثورة جديدة ثورة كمومية بعيون عربية.

مواضيع قد تهمك