محمد حسن التل يكتب : حالة عصف في وزارة العمل ..

في مشهدٍ لافت ، تعيش وزارة العمل الأردنية حالةً من العصف الذهني والتنفيذي على حد سواء، تطال أركان ولايتها كافة، من مواجهة البطالة المتفاقمة، إلى إعادة هندسة التشريعات الناظمة لسوق العمل، وصولاً إلى ضبط العمالة الوافدة بما يعزز من فرص تشغيل الأردنيين، ويعيد الاتزان إلى سوقٍ طالما اختل بفعل التجاوزات الكثيرة .
فمنذ أن تسلّم الوزير خالد البكار زمام وزارة العمل في حكومة الدكتور جعفر حسان، دخل بورشة عمل مفتوحة ، واضعاً نصب عينيه إصلاحاً شاملاً يتكئ على رؤية وطنية، تستند إلى المعرفة والخبرة، وتستلهم من الواقع تحدياته، ومن طموحات الشباب الأردني تطلعاته. والحق أن الرجل، الذي امتد عطاؤه في ميادين السياسة والتشريع والحياة الحزبية، لم يأتِ إلى الوزارة بروح الموظف، بل بعقلية رجل الدولة المصلح الطامح إلى تغيير جذري.
أطلقت الوزارة حزمة من التدابير التشريعية والتنظيمية، أبرزها تعديل قانون العمل بحيث ينسجم مع قانون الضمان الاجتماعي، ويواكب التغيرات الهيكلية في سوق العمل ، فالقانون المعدل جاء ليحمي العامل من التغول، ويحفظ لصاحب العمل حقه في بيئة تشغيل مستقرة، كما تضمن أحكامًا جديدة تصب في مصلحة المرأة العاملة، وتسهم في تحقيق التوازن بين أطراف الإنتاج، وهذا التوازن هو المفتاح لأي نمو اقتصادي مستدام.
وفيما يخص العمالة الوافدة، التي لطالما كانت نقطة اشتعال في سوق العمل الأردني، فقد شرعت الوزارة بإجراءات صارمة تهدف إلى تنظيم وجودها وضبط نشاطها ضمن الأطر القانونية. فالتحدي لم يكن يوماً في وجود هذه العمالة، بل في فوضى انتشارها ومنافستها غير العادلة للقوى العاملة الأردنية، لا سيما في قطاعات حيوية مثل الإنشاءات، الزراعة، والمطاعم.
فكان أن أطلقت الوزارة سلسلة من الإجراءات الفاعلة، تمثلت أولاً في تكثيف حملات التفتيش الميداني على مدار الساعة، حيث شملت الآلاف من المواقع والمنشآت، ورصدت مئات المخالفات، مما أسهم في إعادة كثير من الوظائف إلى الأردنيين ، إن هذه الإجراءات لم تكن عبثية، بل استندت إلى قاعدة بيانات محدثة، وُضعت بالتعاون مع مؤسسات الدولة، ومكنت من تتبع العمالة الوافدة وتحديد حجمها وتوزيعها بدقة.
كما عمدت الوزارة إلى إعادة هيكلة نظام تصاريح العمل، فربطت التصريح بالمهنة والقطاع والموقع الجغرافي، ومنعت التحويل العشوائي بين القطاعات، مما ساعد في وقف التلاعب بالتصاريح.
وضمن سياسة عقلانية قائمة على التنظيم لا الطرد، أطلقت الوزارة حملات لتسوية أوضاع المخالفين من العمالة الوافدة، من خلال تصويب الأوضاع القانونية أو منح مهلة للمغادرة الطوعية دون غرامات في بعض الحالات.
وفي خطوة تهدف إلى تكريس توطين فرص العمل في المهن المغلقة، تم تخصيص عدد من الوظائف للأردنيين فقط، لا سيما بعد تقلص ثقافة العيب وارتفاع نسبة إقبال الشباب على فرص العمل في قطاعات لم يكونوا يقبلون بها سابقاً. وتم دعم هذه السياسة ببرامج تدريب وتأهيل، وربط الباحثين عن العمل بأصحاب العمل من خلال منصات إلكترونية وشراكات استراتيجية.
إلى ذلك، قامت الوزارة بتدريب مفتشيها ليكونوا ليس فقط أداة ضبط، بل أيضاً وسطاء توعية، يشرحون للعمال وأصحاب العمل حقوقهم وواجباتهم، ويشجعون على الامتثال الطوعي للقوانين، ما عزز من فعالية الإجراءات وقلل من التوتر بين الأجهزة الرقابية والمجتمع.
وقد ترافقت هذه الخطوات مع تبنّي سياسة جديدة لتسويق الكفاءات الأردنية في الخارج، عبر اتفاقيات تعاون وتشبيك مع دول تستقطب العمالة المدربة، مما أسهم في تخفيف الضغط على السوق المحلي، وزيادة التحويلات المالية من الخارج، بما يدعم الاقتصاد الوطني.
أما على مستوى التشغيل، فقد نفذت الوزارة برامج موجهة إلى قطاعات مستهدفة، تتضمن دعم التدريب المقرون بالتشغيل، والتشبيك بين الباحثين عن العمل وأصحاب الأعمال، مما أدى إلى زيادة واضحة في نسب التشغيل.
وتُظهر المؤشرات أن هذه الإجراءات بدأت تؤتي ثمارها، حيث انخفضت نسبة البطالة بين الشباب بشكل ملحوظ، خاصة في المناطق التي كانت تعاني من تهميش تنموي،
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل أثر هذه التدابير على الاقتصاد الوطني ككل؛ فقد أسهم تنظيم سوق العمل في تقليل التحويلات المالية الخارجة، وتعزيز استقرار سوق العملات، فضلاً عن تخفيف الضغط على الخدمات العامة، من صحة وتعليم وأمن، والتي كانت تتأثر بتكدس العمالة غير القانونية.
إن الوزارة، بهذا النهج الصارم والرؤية الواضحة، تخوض معركة إصلاح حقيقية، لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى البعد الاجتماعي والثقافي، إذ ساعدت حملات التوعية والتفتيش في تقليص "ثقافة العيب"، التي كانت تحول بين الشاب الأردني والفرص المتاحة في مجالات عدة.
إن ما تقوم به وزارة العمل اليوم، لا يمكن وصفه إلا بأنه مشروع وطني بامتياز، يستحق أن يُشار إليه ، لا لأنه جهد حكومي فحسب، بل لأنه يعيد الاعتبار إلى العدالة الاقتصادية والاجتماعية، ويمنح الثقة لجيل جديد بات يبحث عن دوره الحقيقي في بناء وطنه. فليكن ما يجري اليوم في أروقة وزارة العمل، من تنظيم وهيكلة وتشريع وتفتيش وتشغيل، بمثابة النموذج الذي يحتذى في بقية مؤسسات الدولة؛ حيث الإرادة تتقدم، والكفاءة تُعتمد، والنتائج تُقاس لا تُؤجل.