الأخبار

المهندس عامر البشير يكتب : فلسفة الحماية الاجتماعية

المهندس عامر البشير يكتب : فلسفة الحماية الاجتماعية
أخبارنا :  

"الحلقة الثالثة قبل الاخيرة"

قراءة مقارنة في التجربة الأردنية ومراياها المغاربية والمشرقية

ليست الحماية الاجتماعية محض برامج أو آليات دعم مالي، بل هي انعكاس مباشر لموقع الإنسان في سلّم أولويات الحكومات، ومدى إيمانها به شريكًا في المصير لا رقمًا في سجلات الإنفاق.

من هذا المنطلق، تحاول هذه الورقة تجاوز ظاهر السياسات والنصوص، متوغّلة في ما وراءها من رؤى وفلسفات، من خلال قراءة نقدية للتجربة الأردنية في الحماية الاجتماعية (2025–2033)، مقابل تجارب مغاربية (المغرب وتونس) وتجارب مشرقية (مصر ولبنان).
فالخلل، في تقديرنا، لا يكمن في شحّ التمويل أو محدودية الأدوات، بل في الرؤية الحاكمة وفي السؤال المؤجّل دومًا:
هل الحماية فعل إنساني نابع من الحق؟ أم أداة تقنية لإدارة الفقر دون اجتثاثه؟

ورغم العناوين اللامعة والتغليف الخطابي، لا تزال الاستراتيجية الأردنية أسيرة لفلسفة "الاستحقاق المشروط"، تفتقر إلى إعادة بناء جذرية للمنظور الاجتماعي تبدأ من الاعتراف بالحقوق لا توزيع الإعانات.

أولًا: الكرامة قبل السياسة
الحماية الاجتماعية ليست سياسة قطاعية تُدرج في أدبيات الحكومات، بل مرآة للضمير العام، وطريقة الدولة في فهم معنى "العيش الكريم".
هي، قبل كل شيء، سؤال أخلاقي لا إجابة إدارية.

وعندما تُختزل في بطاقة دعم مشروط أو قرض صغير، فإن المشكلة لا تكمن في أدوات التنفيذ، بل في نظرة النظام إلى الإنسان:
هل يُحمى لكونه كائنًا إنسانيًا؟ أم فقط إن كان منتجًا رابحًا في السوق؟

ثانيًا: الأردن – عندما يُخضع الحق للموافقة
تتألف الاستراتيجية الوطنية الأردنية للحماية الاجتماعية من أربعة محاور: الكرامة، التمكين، الفرصة، الصمود.
لكن خلف هذه العناوين الجذّابة، تقف بنية فلسفية هشة؛ فالدعم يُمنح بشروط صارمة، والخدمات تُقيّم بملاءة الجيوب لا بعمق الحاجة، والتمكين يُختزل في افتراض جهوزية الفرد لسوق محدود الفرص.

أما الكرامة، فتبقى حبيسة المفهوم الإنتاجي، لا الإنساني.
ويُلاحظ أن الاستراتيجية تُعيد إنتاج وثيقة 2019–2025 دون مراجعة جادّة أو تقييم فلسفي حقيقي لأسئلة جوهرية:

ما هو الحق في الحماية؟
من يقرره؟
وهل تُقاس العدالة بخوارزميات؟ أم تُبنى على إدراك معيشٍ للظلم؟

ثالثًا: المغرب – من المراقبة إلى الاعتراف
في المغرب، طُرحت الحماية الاجتماعية بوصفها حقًا مكتسبًا لا مِنّة فيه.
السجل الاجتماعي الموحّد لم يُستخدم أداة رقابة كما في دول أخرى، بل كوسيلة للوصول إلى المهمشين، ضمن انتقال نوعي من الدولة "الراصدة" للفقر إلى الدولة "الراعية" للعدالة.
هنا، لا تُمنح الحماية كمكرمة، بل تُبنى كشراكة اجتماعية، تعيد تعريف الانتماء على أساس الرعاية لا على منطق الانتقاء.

رابعًا: تونس – العدالة على خارطة الوطن
أدركت تونس أن الفقر ليس طبقة فقط، بل جغرافيا أيضًا.
وجاءت استراتيجيتها لتوزّع الحماية الاجتماعية وفق الخريطة لا الطبقة، فجعلت من الريف شريكًا في العدالة لا هامشًا للنسيان.
إنها محاولة لإعادة توزيع الكرامة الوطنية، كي لا تبقى حكرًا على سكان العاصمة، بل حقًا لكل من سكن الأرض ولو بَعُد عن المركز.

خامسًا: مصر ولبنان – حين يسبق المجتمع الدولة
في مصر، ورغم النجاح النسبي لبرنامجي "تكافل وكرامة"، بقيت الحماية الاجتماعية جزئية الطابع، إسعافية الوظيفة، دون معالجة جذرية لبُنى الفقر التاريخية وهيمنة المركز.

أما في لبنان، حيث الدولة غائبة أو متردّدة، فقد تولّى المجتمع المدني والبلديات والمنظمات المحلية أدوار الدولة في تقديم الرعاية.
فغدت الحماية فعلًا تضامنيًا يملأ فراغ السلطة، لا سياسة عامة تبادر بها الحكومة.

في كلتا الحالتين، يتكرّر السؤال:
ما الذي يبقى من معنى الدولة إذا تخلّت، طوعًا أو قسرًا، عن واجبها الأخلاقي؟

سادسًا: نحو فلسفة بديلة في الأردن
إذا أردنا إعادة تأسيس الحماية الاجتماعية في الأردن، فلا بد من تغيير فلسفة العلاقة بين الدولة والمواطن.
المطلوب ليس تطوير أدوات، بل تحول في المنطلقات: من الاستحقاق المشروط إلى الحق الثابت، ومن منطق الإعانة إلى منطق العدالة.

في بلد تُسقط فيه المساعدات عن مواطن ظهر اسمه في سجل المركبات، مركبة من عام 1950، أو عن من يملك قطعة أرض جرداء لا تصلح للزراعة، تُقاس الحاجة بطريقة تعكس بيروقراطية ميتة لا واقعًا معاشًا.

وفي مشهد أكثر إيلامًا، يُقطع راتب تقاعدي من 30 دينارًا عن ضرير سبعيني لا يملك ثمن مواصلات ليراجع مركز صحي للعلاج، لأن "التعليمات لا تنطبق عليه".
أي تعليمات هذه التي تُعمي البصر والبصيرة؟
وأي جهاز يُفترض به أن يحمي، إذا كانت إنسانية المواطن تُقاس بميزان الريع لا الرحمة؟

قال عمر بن الخطاب:
"لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها: لِمَ لم تمهّد لها الطريق؟"

فكيف الحال بضرير يُخذل في حاجته، ولا أحد يُسأل، ولا أحد يُحاسب؟

الخاتمة: الكرامة تُكتب… لا تُقيَّم
ليست الحماية الاجتماعية أداة لتسكين الألم أو تصدير الشعور بالعطف، بل هي عقد أخلاقي بين الدولة والمجتمع، وتجسيد لرؤية الدولة لمواطنيها:

هل هم قيمة قائمة بذاتها؟
أم مجرّد أدوات إنتاجية تقبل الحماية فقط إن أثبتت فائدتها؟

التجارب المغاربية والمشرقية، لا سيما النموذج المغربي، تقدّم لنا درسًا ليس في الأدوات، بل في المعنى.
فالتحوّل المنشود لا يكون عبر تجميل اللغة، بل بتجديد المقصد.
ولا في تحديث التعليمات، بل في ترميم العلاقة بين الحكومة والناس، بحيث تُكتب الكرامة... لا تُقيَّم.
يُعبّر هذا المقال عن وجهة نظر كاتبه في إطار حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور الأردني في المادة (15)، ويهدف إلى تقديم قراءة تحليلية لسياسات عامة تمس حياة المواطنين. لا يحتوي المقال على إساءة شخصية أو ذم أو قدح بأي فرد أو جهة، بل يتناول بالنقد والتحليل أداءً حكوميًا معلنًا، من منطلق المصلحة الوطنية والسعي لتحسين فعالية السياسات الاجتماعية وتعزيز العدالة. إنّ ما ورد في هذا النص يُعد مساهمة فكرية في النقاش العام، ويخضع لحماية حرية التعبير المكفولة بموجب القانون والدستور

مواضيع قد تهمك