أ. د. ليث كمال نصراوين : نهضات دستورية بعد إعلان الاستقلال: السلطة القضائية (3/3)

إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية، فقد امتد نطاق النهضة الدستورية بعد إعلان الاستقلال لتشمل السلطة القضائية وإن كان بحدود أقل منها بالنسبة لباقي السلطتين، وذلك بسبب اهتمام الدولة الأردنية منذ نشأتها بهذه السلطة تحديدا وبالقضاة العاملين فيها منذ إصدار القانون الأساسي لسنة 1928 وحتى صدور الدستور الحالي لسنة 1952.
فالملامح الرئيسة للسلطة القضائية من حيث النص على استقلاليتها وتقسيم المحاكم وطريقة تعيين القضاة فيها لم تتغير منذ عهد إمارة شرق الأردن. فقضاة المحاكم المدنية والشرعية في "دستور" عام 1928 كانوا يعينون بإرادة ولا يعزلون إلا بمقتضى أحكام القانون، وكانت المحاكم تقسّم إلى ثلاثة أنواع هي المحاكم المدنية، والمحاكم الدينية، والمحاكم الخاصة. وكانت المحاكم المدنية تمارس حق القضاء على جميع الأشخاص في شرق الأردن في كافة المواد المدنية والجزائية ما لم يجر تفويض حق القضاء فيها لمحاكم وطنية أخرى.
ومنذ عام 1928 كان هناك حكم دستوري يقضي بأن جميع الجلسات علنية وبأنه يجوز عقدها سرية لأسباب يحددها القانون، على ألا تشمل سرية المحاكمات جلسة النطق بالحكم الذي كان القانون الأساسي يشترط أن تكون علنية، وكانت الأحكام القضائية جميعها تصدر بإسم الأمير.
وقد حافظ دستور الاستقلال لسنة 1946 على هذه الترتيبات الدستورية الخاصة بالسلطة القضائية، وبالأخص فيما يتعلق بتشكيل المحاكم الدينية واختصاصاتها، والتي كانت تتكون من المحاكم الشرعية الإسلامية ومجالس الطوائف الدينية. فكان للمحاكم الشرعية وحدها حق القضاء في الأحوال الشخصية للمسلمين وفي المواد المختصة بإنشاء الأوقاف التي كان يشترط الدستور تنظيم أمورها بقانون، بالإضافة إلى اختصاصها بالنظر في طلبات الدية إذا كان الفريقان مسلمان أو رضيا بأن يكون حق القضاء فيها للمحاكم الشرعية.
أما مجالس الطوائف الدينية، فقد جرى تعريفها بأنها المجالس الدينية غير المسلمة التي اعترفت أو تعترف بها الحكومة أنها مؤسسة في الأردن، وكان يجري تشكيلها وتحديد اختصاصاتها وفق أحكام القوانين الخاصة بها.
أما الحكم المستحدث في دستور الاستقلال لسنة 1946، فتمثل بإنشاء الديوان الخاص لتفسير القوانين الذي كان ينعقد برئاسة وزير العدل وعدد من كبار موظفي الإدارة يختارهم رئيس الوزراء، ومن موظفي وزارة العدل ينتخبهم المجلس القضائي العالي في ذلك الوقت، وكانت مهمته تفسير أي نص قانوني لم تكن المحاكم الأردنية قد فسرته، وذلك بطلب من رئيس الوزراء.
وفي الدستور الحالي لسنة 1952 والتعديلات المتلاحقة التي خضع لها، فقد جرى تكريس استقلال السلطة القضائية بشكل كامل من خلال النص صراحة على إنشاء مجلس قضائي بقانون يكون مستقلا ماليا وإداريا عن وزارة العدل، ويتولى جميع الشؤون المتعلقة بالقضاة النظاميين من تعيينهم وترفيعهم ونقلهم وإنهاء خدماتهم. كما جرى التأكيد على استقلالية القضاة العاملين في المحاكم على اختلاف أنواعها، وذلك من خلال النص على أن ﻻ سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون.
ومن مظاهر النهضة الدستورية في السلطة القضائية منذ إعلان الاستقلال التعديلات التي جرى إدخالها على الدستور الأردني في عام 2011، وفي مقدمتها تكريس مبدأ التقاضي على درجتين في القضاء الإداري، وذلك بإلغاء محكمة العدل العليا التي كانت قرارتها نهائية والاستبدال بها محكمة إدارية وإدارية عليا.
ومن الإضافات الهامة على الدستور الحالي في مجال السلطة القضائية الضمانات الدستورية التي جرى تكريسها للأردنيين في مجال التقاضي؛ أهمها اعتبار المحاكم مفتوحة للجميع ومصونة من التدخل في شؤونها، و"دسترة" مبدأ قرينة البراءة التي يُقصد بها بأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته بحكم قطعي.
كما تم الإقرار لمجالس الطوائف الدينية بحقهم في أن تكون لهم تشريعات خاصة بهم تنظم مسائل تعيين القضاة وأصول المحاكمات أمامها، وتكريس الحق لهم في تطبيق اﻷصول واﻷحكام المتعلقة بمسائل اﻷحوال الشخصية التي ﻻ تعتبر من مسائل اﻷحوال الشخصية للمسلمين الداخلة في اختصاص المحاكم الشرعية.
وجرى أيضا تنظيم عمل محكمة أمن الدولة، وذلك من خلال تقييد اخصاصاتها القضائية بجرائم محددة على سبيل الحصر هي الخيانة والتجسس والإرهاب وجرائم المخدرات وتزييف العملة، وبخلاف ذلك فإنه لا يجوز محاكمة أي شخص مدني في قضية جزائية ﻻ يكون جميع قضاتها مدنيين.
وعلى صعيد الديوان الخاص بتفسير القوانين، فقد جرى إعادة النظر في تشكيله لصالح ضمان استقلاليته عن السلطة التنفيذية، وذلك من خلال إلغاء رئاسة وزير العدل له وإسنادها إلى رئيس أعلى محكمة نظامية في السلطة القضائية. كما تم إنشاء مجلس عال لتفسير الدستور الذي حلت محله المحكمة الدستورية في عام 2012، والتي إن لم تكن تابعة للمجلس القضائي إلا أنها تعتبر جهة قضائية مستقلة تمارس عملها في مجال الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة وتفسير نصوص الدستور.