اسماعيل الشريف يكتب : كرت أحمر

الكونغرس، والبيت الأبيض، وهوليوود، وول ستريت مملوكة من قبل الصهاينة. لا شك في ذلك، وقد دفعت ثمنًا لقولي هذا، لكنه كان يستحق قول الحقيقة- هيلين توماس، مراسلة صحفية للبيت الأبيض.
من هم في مثل سني يذكرون نجم نجوم الكرة الإنجليزية في ثمانينيات القرن الماضي، غاري لينيكر، الذي يمكن تشبيهه بمحمد صلاح في زماننا هذا. ثم أصبح لاحقًا أشهر مقدم للبرنامج الرياضي «مباراة اليوم» في بريطانيا، والذي يقدمه منذ عام 1999 على قناة بي بي سي.
قبل أيام، حصل لينيكر على البطاقة الحمراء من قناة بي بي سي، بعد ستة وعشرين عامًا من تقديمه لأنجح برنامج رياضي على القناة. السبب في ذلك أنه نشر على حسابه الخاص في إنستغرام مادة متعاطفة مع مأساة الشعب الفلسطيني، وتجرأ على انتقاد الصهيونية، فتعرض لهجمة شرسة من المنظمات الصهيونية. اتُهم بمعاداة السامية، ورغم أنه اعتذر علنًا عن المنشور، وأقسم بكل الكتب السماوية أنه ليس معاديًا للسامية، إلا أن ذلك لم يشفع له، فغادر البساط الأخضر ووُضع على مقاعد الاحتياط.
لينيكر معروف بمواقفه السياسية، فقد كتب عن قانون الهجرة البريطاني الجديد: «طريقة تعاملنا مع هؤلاء الأطفال الضعفاء أمر مقرف وغير إنساني»، ووصف وزيرة الداخلية السابقة، سويلا برافرمان، بأنها لا تختلف عن النازيين. ومع ذلك، بقي على رأس عمله. قل ما شئت، ولكن إيّاك أن تنتقد الصهاينة.
حتى لو تحرّشت بالأطفال أو اغتصبت النساء، فلن تفقد وظيفتك؛ بل على العكس، قد تُرقّى وتُفتح أمامك الأبواب. ولكن إيّاك أن تنتقد الصهيونية. وقصة جيمي سافيل أكبر دليل على ذلك. فقد كان من أشهر معدّي البرامج في هيئة الإذاعة البريطانية، وتوفي عام 2011. وبعد وفاته، تكشفت فضائحه، وتبيّن أنه اغتصب عشرات النساء والأطفال خلال فترة نجوميته. حتى نتفليكس خصصت له برنامجًا وثائقيًا بعنوان «قصة رعب بريطانية». واتضح أن قناته كانت تعلم بما يجري، لكنها لم تأخذ الأمر على محمل الجد. لقد كان كل انتهاك جديد، وكل ضحية جديدة، خطوة أخرى في طريقه إلى مزيد من التقدير والشهرة.
لا يستطيع أحد في هذه الأيام الاستمرار في دعم الإبادة الجماعية التي تُرتكب في غزة، فالرأي العام العالمي بات يجمع على أن ما يقوم به الصهاينة، في الحد الأدنى، عمل غير إنساني. وأي إعلامي يعبّر صراحة عن تأييده لهم سيسقط حتمًا. ولهذا، بدأ نجوم الإعلام الغربي يتغيرون. حتى كبيرهم الذي علّمهم السحر، بيرس مورغان، أحد أبرز الإعلاميين في العالم والمعروف بولائه المطلق للصهاينة، لم يتمكّن من الاستمرار في دعمه لهم. فقد ظهر في برنامج الصحفي الشهير مهدي حسن، وأعلن تغيّر موقفه، قائلاً: «لقد قاومت الذهاب إلى هذا الحد في انتقادي للحكومة «الإسرائيلية»، ولكنني لم أعد أستطيع المقاومة»، كما وصف الحرب بأنها «مخزية».
ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام الكبرى في الغرب تختار الاستمرار في دعم الصهاينة، وتعيد تعريف الحيادية على طريقتها الخاصة: انتقد ما تشاء، وتحرّش بالأطفال إن أردت، لكن إيّاك ثم إيّاك أن تنتقد الصهاينة.
فلا عجب أن تتراجع حرية التعبير في أوروبا بمقدار 7.6 نقطة، وهي أعلى نسبة تراجع منذ الحقبة النازية، وفقًا لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود».
كان آباؤنا يضبطون ساعاتهم على العبارة الشهيرة لهيئة الإذاعة البريطانية: «هنا لندن»، وكانت نشرة أخبار الليل مقدسة لدى الكثيرين، إذ كانوا يعتبرونها آنذاك نموذجًا للحيادية. ولكن بعد طوفان الأقصى، سقطت مفاهيم ومسلمات كثيرة، من بينها حيادية الإعلام الغربي، الذي تبيّن أنه ليس أكثر من بوق للسياسات الإمبريالية والصهيونية، ومهندس للوعي المجتمعي بما يخدم أهدافهم.
خروج لينيكر قد يكون خيرًا للقضية الفلسطينية، إذ سيتفرغ لشركته «جوع كرة القدم»، التي تقدم برنامجين شهيرين عبر البودكاست: «الباقي كرة قدم» و»الباقي سياسة». وسيتمكن من التعبير عن نفسه كما يشاء، بعيدًا عن نفاق الإعلام الغربي التقليدي، ليُسهم في تغيير الوعي داخل المجتمعات الغربية. ــ الدستور