المهندس عامر البشير يكتب : الحماية الاجتماعية: استراتيجية بلا رؤية .. وخطاب بلا مضمون

* الحلقة الأولى – مقابلة معالي وزيرة التنمية الاجتماعية مع الاعلامي عامر الرجوب في برنامج صوت المملكة
في زمنٍ تتعالى فيه الخطابات الرسمية، وتتزايد فيه معدلات الفقر، لا يعود ظهور وزير في مقابلة إعلامية حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل يتحوّل إلى مرآة تعكس موقع الدولة من مواطنيها، ومدى اتساق لغتها السياسية مع وجع الناس اليومي. من هنا، لم يكن ظهور وزيرة التنمية الاجتماعية على شاشة قناة "المملكة" مناسبة عابرة، بل فرصة ــ ضائعة ــ كانت تستحق أن تُستثمر في كشف ملامح ما سُمّي بـ"الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية 2025–2033".
كان المشهد ــ في ظاهره ــ يحمل نوايا طيبة، ورغبة في الطمأنة، وربما بعض الأمل بأن الحكومة قد قررت، هذه المرة، أن تنظر في عيون مواطنيها دون وسائط. لكن ما بدا في أول اللقاء وعدًا بالوضوح، سرعان ما تبدّد تحت ثقل لغة مفرغة من معناها، وعبارات فنية لا تمتلك دفء الهدف ولا عمق الرؤية.
كرّر هذا المشهد نهج حكومي يُجيد التجميع، لكنه لا يتقن التأسيس؛ يُبالغ في استحضار التفاصيل، لكنه يفتقر إلى المعنى الناظم. فالاستهداف، الذي بُنيت عليه المعونة الوطنية وسواها، هو نقيض الحماية الشاملة التي أقرتها المواثيق الدولية وأكد عليها الدستور الأردني. الاستهداف، بوصفه أداة لتقليص النفقات، حوّل الحماية من حق إلى منحة، ومن نظام إلى صدقة مشروطة.
لقد بات واضحًا أن الحكومات لم تُدرك بعد أن الحماية الاجتماعية لا تُبنى بالبرامج، بل تُؤسس على الفلسفة. فلسفة تنطلق من الإيمان بأن كرامة الإنسان لا تُقاس بقدر ما يمتلك من أوراق ثبوتية أو تقارير فقر، بل بما يحق له بوصفه مواطنًا. وعليه، فإن التذرع بالديناميكية، وتبرير الإقصاء بمعادلات الاستهداف، ليس سوى وجه آخر لتغييب العدالة، وتكريس عقلية التمييز بين مواطن وآخر.
وما قصة المواطنة "وضحى الشهاب" إلا شاهدٌ حي على خلل المنظومة؛ حين تتحوّل المساعدة إلى استثناء، ويصبح الظهور الإعلامي متطلبا للحصول على الحقوق. أيّ حمايةٍ هذه التي لا تستشعر الحاجة إلا إذا التقطتها كاميرا؟ وأيّ استراتيجيةٍ تلك التي تُقصي من لا يملك مهارة التوسل أو الحظ في الظهور؟
الأخطر من ذلك: التناقض بين القول والفعل
أن تقول الوزيرة إن الحماية حقٌ لكل المواطنين، ثم تمضي في الحديث عن استهداف الفقراء فقط، فذلك ليس سهوًا لغويًا، بل خللٌ في البنية المفاهيمية. كيف يُفهم الحق بوصفه عامًا، ويُمارس بوصفه خاصًا؟ كيف نُحدّث الاقتصاد ولا نُحدّث فلسفة العدالة الاجتماعية؟
الغياب الأشد وقعًا: مفهوم الحماية نفسه
كيف يمكن الحديث عن استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية دون أن نبدأ بتعريف واضح ومعلن لهذا المفهوم؟ لم تقدّم الوزيرة أي تصور حقوقي أو فلسفي له. لم تُطرح الحماية كنظام يضمن كرامة الإنسان من المهد إلى الشيخوخة، ولا كنموذج تضامني يعيد الاعتبار لفكرة المواطنة. ما سُرد كان مزيجًا غير منسجم من البرامج والمبادرات، بعضها قديم وبعضها لا رابط بينه وبين الآخر، وكأننا أمام كتالوج تمويلي، لا مشروع وطني.
في ظل هذا الغياب، تفقد "الاستراتيجية" معناها الأول، فهي تُبنى عادة على تصور فلسفي واضح، يُشتق منه الهدف، وتنبثق عنه السياسات، وتُقاس عبره النتائج. أما إذا تحوّلت إلى تجميع عشوائي لمشاريع مموّلة من جهات متعددة، تديرها مؤسسات متناثرة، فإنها تفقد صفتها الاستراتيجية وتتحول إلى مجرد تنظيم إداري للجهود المتفرقة.
من العدالة إلى الاستثناء: حين تُدار الحقوق بمزاج السلطة
في لحظة بدت وكأنها اعتراف غير مقصود، أشارت الوزيرة إلى أن المساعدات توزّع على أساس 57 مؤشرًا صادرة عن 40 مؤسسة، في محاولة لمنح الأمر مظهرًا علميًا. لكنها ما لبثت أن أكدت أن هناك استثناءات تُمنَح بقرار وزاري. وهنا يصبح الحق خاضعًا لمزاج السلطة، ويتحوّل من كونه استحقاقًا إلى منحة، ومن كونه ضمانًا إلى امتياز. فهل يمكن للكرامة أن تكون خاضعة لتقدير إداري؟ وهل تُقاس إنسانية الإنسان بعدد المؤشرات أم بدرجة احتياجه؟ وماذا تبقّى من المادة (22) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إذا ما تم تقويض الحق بالضمان الاجتماعي باستثناء يُمنح أو يُمنع؟
قروض تحت لافتة "التمكين": إعادة إنتاج للعجز
الأشد مفارقة كان الحديث عن "تمكين الفقراء" عبر منحهم قروضًا. فالمنطق البسيط يطرح السؤال: كيف يُمكَّن من لا يملك أساسًا ما يسدّد به القرض؟ من يُعاني البطالة أو الدخل المتقطع، كيف نحمّله عبء الالتزام المالي؟ ألا تتحوّل القروض في هذه الحالة إلى قيدٍ جديد يُضاف إلى أعبائه، بدل أن تكون وسيلة لتحرّره؟ أين التمكين في أن يُدفع من لا يملك إلى مزيد من الدَين، بلا شبكة أمان تحميه إذا تعثّر؟ في هذا الطرح، تغيب العدالة، ويغيب الفهم الحقيقي لمعنى التمكين.
"التمكين" كمصطلح بلا جذور... ومواطنة بلا مضمون
تكرّر في الحوار مصطلح "التمكين"، لكن دون أي ربط واضح بينه وبين الحقوق الأساسية. لا حديث عن التعليم كحق، ولا الصحة، ولا السكن اللائق، ولا بيئة العمل. لم نجد أي مرجعية دستورية أو حقوقية تُبنى عليها الفكرة. هكذا، يصبح "التمكين" شعارًا بلا سند، مصطلحًا هشًا يفتقر إلى المعنى، يُستخدم لطلاء العجز بلون التفاؤل الزائف.
استراتيجية بلا وثيقة... أي مشروع هذا؟
كيف يمكن الحديث عن استراتيجية وطنية تم إطلاقها بدون مشاركة النص الكامل لها! لا خلال الاطلاق ولا بعده! والذي تم مشاركته لغاية تاريخ المقابلة هو فقط ملخص من 7 صفحات(وهذا هو المتوفر فقط على الموقع الإلكتروني و الروابط التي تم مشاركتها في حفل الاطلاق) ، ولم نسمع في المقابلة عن مؤشرات أداء، ولا آليات تقييم، ولا موازنات تفصيلية، ولا سقوف زمنية للتنفيذ. فقط شرائح عرض مرئية، خالية من العمق، وخطاب تسويقي لم يُقنع أحدًا.
العبارة الأشد تناقضًا: "الحماية الاجتماعية حق للجميع"
في ختام اللقاء، نطقت الوزيرة عبارة لافتة: "الحماية الاجتماعية حق لكل مواطن". لكن هذه العبارة، بكل قوتها الرمزية، بدت منفصلة عن سياق اللقاء بأكمله. فإذا كانت الحماية حقًا، فلماذا تُدار بمنطق الاستهداف؟ وإذا كانت شاملة، فلماذا لا يُشرك في النقاش من هم خارج إطار الدعم؟ وإذا كان هدفها التمكين، فلماذا تبدأ بالدَّين لا بالعدالة؟
ما بعد الحوار... لحظة الأسئلة الكبرى
بدلًا من أن تحسم المقابلة الجدل، فتحت الباب على مصراعيه لأسئلة مؤجلة:
• هل نمتلك فعلًا رؤية وطنية للحماية الاجتماعية؟
• أم أننا نُعيد إنتاج منظومة قديمة بلغة جديدة؟
• هل تُدار هذه الملفات بعقل اجتماعي سيادي؟
• أم أنها رهينة لمعادلات التمويل واشتراطات المانحين؟
• هل المواطن هو محور الحماية؟
• أم مجرّد رقم في نظام استهداف معقّد؟
الحماية... فلسفة لا تُقاس بالمؤشرات
ما نحتاجه ليس استعراضًا جديدًا، ولا لغة مزيّنة بالأرقام، بل فلسفة سياسية تُعيد الاعتبار للإنسان كمركز للسياسة العامة. فلسفة تقول إن الكرامة لا تُقاس بالدخل، ولا تُجزّأ بحسب معايير فنية، ولا تُؤجَّل إلى إشعار تمويلي لاحق. فلسفة تضع الإنسان لا كمتلقٍ للمعونة، بل كشريك في رسم الأولويات وتحديد المصير.
الحماية الاجتماعية، في جوهرها، ليست بندًا في موازنة، ولا برنامجًا يُوقّع عليه اتفاق تمويل، بل هي ميثاق اجتماعي، يُبنى على فكرة جوهرية: أن الإنسان لا يُقاس بمقدار ما يحتاج، بل بمقدار ما يستحق.
ولعل البداية الجديدة التي ننشدها لا تكون بتعديل برامج أو تجميل مؤشرات، بل بتحوّل جوهري في الفلسفة الحاكمة، كما فعلت دولٌ أدركت أن الحماية الاجتماعية ليست كلفة، بل استثمار في الإنسان. في البرازيل، بُنيت شبكة "بولسا فاميليا" على مبدأ الاستحقاق لا الاستعطاف، وفي المغرب وتونس، تسارعت الإصلاحات نحو أنظمة تأمين شامل تربط بين الحق والكرامة. نماذج لم تبدأ من تمويل خارجي، بل من إرادة داخلية راسخة، ترى في المواطن شريكًا لا مستهدفًا، وفي العدالة ركيزة لا شعارًا.
نموذجٌ كهذا هو ما نحتاجه: حماية تُبنى على فلسفة الضمان لا مشروطية المعونة، وعلى عقد اجتماعي يُترجم المواطنة إلى أمان فعلي، لا إلى رقم في جدول الإنفاق.
والمطلوب اليوم... ليس مزيدًا من الكلام، بل بداية جديدة.
نكمل الحديث في الحلقة القادمة بعنوان الخطوة التي لم تكتمل... تقييم الاستراتيجية 2019–2025
* يُعبّر هذا المقال عن وجهة نظر كاتبه في إطار حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور الأردني في المادة (15)، ويهدف إلى تقديم قراءة تحليلية لسياسات عامة تمس حياة المواطنين. لا يحتوي المقال على إساءة شخصية أو ذم أو قدح بأي فرد أو جهة، بل يتناول بالنقد والتحليل أداءً حكوميًا معلنًا، من منطلق المصلحة الوطنية والسعي لتحسين فعالية السياسات الاجتماعية وتعزيز العدالة. إنّ ما ورد في هذا النص يُعد مساهمة فكرية في النقاش العام، ويخضع لحماية حرية التعبير المكفولة بموجب القانون والدستور.