اسماعيل الشريف يكتب : خبر سخيف

المتآمرون الذين أرادوا تدمير الأردن نسوا عاملاً واحداً: الشعب الأردني- الحسين بن طلال.
في خضمّ المأساة الإنسانية غير المسبوقة في التاريخ الحديث، التي تعصف بقطاع غزة وتفطر القلوب، تابعنا بكثير من الاشمئزاز ما نشره موقع Middle East Eye من ادعاء بأنّ الأردن يتكسّب من إيصال المساعدات إلى أهلنا في غزة. وقد جاء ردّ الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية حاسمًا وفاصلًا، اتّسم بالوضوح والشفافية، ليدحض هذا الادعاء الكاذب بما لا يدع مجالًا للشك. فقد افتقر التقرير إلى أبسط مقومات العمل الصحفي؛ إذ لم يستند إلى شهادة موثقة، ولا إلى دليل أو وثيقة واحدة تثبت صحة ما ورد فيه، وهو ما يناقض أبجديات الصحافة.
بل على العكس تمامًا، فقد أكدت منظمتان دوليتان «إمداد الجنوب الإفريقية» و»كوم الماليزية» أن الأردن لم يطلب منهما أي مبالغ مالية مقابل مشاركتهما في العمليات التي نُفّذت. وإلى جانب هاتين المنظمتين، هناك عشرات المنظمات والدول العربية الشقيقة والأجنبية الصديقة التي شاركت في عمليات الإنزال، ولو أن الأردن تقاضى أي مبالغ منها، لتسرّب ذلك إلى وسائل الإعلام خلال الأشهر التسعة عشر الماضية. بل لكان الصهاينة أول من سعى إلى كشفه، إذ لا شكّ أن موقف الأردن من المجزرة وتحركاته السياسية والإنسانية يغيظهم بشدة.
وقد سردت جملة من الأسباب المنطقية التي تثبت كذب هذا الخبر، وقد تناولت معظمها وسائل الإعلام الأردنية بالتفنيد، إضافة إلى الرد الرسمي الواضح من الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية. أول هذه الأسباب أن توقيت نشر التقرير يتزامن مع الحديث عن خطة أمريكية لإيصال المساعدات إلى غزة، وهو ما يثير الشكوك حول وجود أطراف إقليمية ودولية على رأسها الكيان الصهيوني تسعى لسحب ملف الإغاثة من يد الأردن، والترويج لمسارات بديلة، عبر التشكيك في نزاهته، خاصة وأن الاحتلال يستخدم الغذاء والدواء كسلاح في هذه الحرب. وقد يكون الهدف من ذلك توفير غطاء أخلاقي لتدخل أمريكي مباشر يُسوَّق على أنه إنقاذ، في مقابل تصوير الأردن كمستغِلّ للمأساة.
وثانيًا، تأتي هذه الادعاءات في سياق محاولة لتحييد الأردن عن الملف الفلسطيني، رغم كونه طرفًا محوريًا ووصيًا تاريخيًا على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ما يجعل من إضعاف مكانته وسيلة لتمرير أجندات لا يرضى بها الأردن. وثالثًا، قد تكون هذه الحملة بمثابة تصفية حسابات سياسية مع الموقف الصلب لجلالة الملك في إيصال المساعدات، وحشده للرأي العام الدولي ضد المجزرة، ورفضه الواضح لتهجير أهل غزة إلى الأردن، وإصراره على دعم صمودهم في وطنهم لا في المنافي.
كما تأتي هذه الشائعات في سياق محاولة لإرباك التعاون الأردني الأوروبي المتنامي، خاصة بعد أن قرر الاتحاد الأوروبي تعويض المساعدات التي جمدتها الولايات المتحدة، والتي عادت لاحقًا لاستئنافها. فمثل هذه التقارير قد تخدم توجهًا أمريكيًا للانفراد بالمشهد الإنساني والإغاثي. ومن جهة أخرى، تهدف هذه الادعاءات إلى تقويض ثقة الأردنيين بمؤسسات دولتهم، وعلى رأسها الجيش العربي، الذي يُعد رمزًا للنزاهة والكرامة الوطنية، وواحدًا من آخر القلاع الصامدة في وجه الأطماع الصهيونية.
ومن دوافع نشر هذا التقرير أيضًا التغطية على فشل أطراف كثيرة في دعم الشعب الفلسطيني، أو صرف الأنظار عن تعاونها المريب مع الاحتلال في ارتكاب هذه المجازر. أما من الناحية العملية، فالأردن لا يملك السيادة على أجواء غزة، وكل عملية إنزال تتم بالتنسيق مع الاحتلال والأمم المتحدة ومصر الشقيقة، فكيف يُتّهم بالاستفادة من أمر لا يملكه أصلًا؟ ولو كانت هناك مكاسب مادية، لنُشرت التقارير منذ أول عملية، ولتوقفت المساعدات بانتظار الدفع، وهذا لم يحدث إطلاقًا.
تاريخيًا، لم يستغل الأردن أي أزمة إنسانية، بل كان دومًا ملاذًا آمنًا للاجئين والمضطهدين من مختلف الدول، وقاسمهم موارده المحدودة، ولم يتاجر بمعاناتهم. ويكفي أن نتأمل المستشفيات الميدانية التي أقامها الأردن في غزة والضفة الغربية، والتي تُدار تحت القصف بجهود كوادر جيشه الباسل، وقد تعرّض بعضهم للإصابة أثناء أداء الواجب، ومع ذلك تموّل المملكة هذه المستشفيات بالكامل، دون خجل من الإعلان عن قبول أي دعم إضافي من الأشقاء أو الأصدقاء.
هذا هو زمن الشقلبة، حيث يُصبح الضحية جلاّدًا، والمجرم بريئًا، ويُصوّر الأردن الذي فتح جسوره البرية والجوية منذ اللحظة الأولى لبدء المجزرة كمتَّهمٍ يُراد تشويه صورته عمدًا. لكنّ رد الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية جاء شفافًا، موثقًا، قاطعًا، وداحضًا لهذه الحملة المغرضة.
فالأردن لم يعتبر غزة يومًا فرصة، بل مسؤولية. وما يقدّمه لها ليس تجارة، بل التزامًا أخلاقيًا وقوميًا راسخًا. ومهما سعت الجهات المشبوهة إلى تشويه هذا الدور، فإن ثقة الأردنيين بقيادتهم ومؤسساتهم وعلى رأسها جيشهم المصطفوي الباسل هي ثقة مطلقة، تُورّث من جيل إلى جيل، وقد بُنيت عبر السنين على والمواقف الصادقة المشرفة والتضحيات المشهودة. ــ الدستور