د. خالد الشقران يكتب : الأونروا والاحتلال: اختبار حقيقي للقانون الدولي

أكدت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في بيانٍ اصدرته مؤخرا التزامها بالولاية الممنوحة لها من الجمعية العامة للأمم المتحدة، مُحذرةً من خطورة الإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى إغلاق مدارسها في القدس الشرقية، والتي تُعتبر جزءاً من مساعي الكنيست الإسرائيلي لإلغاء وجود الوكالة الأممية في المدينة يأتي هذا التصعيد في إطار صراعٍ أعمق يتعلق بالسيادة على القدس ومستقبل القضية الفلسطينية، مع تداعيات قانونية وسياسية تمسّ أسس النظام الدولي.
تصريحات الوكالة الأممية هذه تبرز كصرخة دولية لمواجهة سياسة منهجية تهدف إلى محو الوجود الفلسطيني في القدس المحتلة، عبر تفكيك أحد أبرز الرموز الإنسانية المرتبطة بقضية اللاجئين منذ النكبة، هذه المواجهة ليست مجرد أزمة مؤسسية، بل هي اختبار لشرعية النظام الدولي وقدرته على حماية مبادئه أمام دولة تعمل وتعتبر نفسها خارج إطار القانون.
وفقا للسياقين السياسي والاجرائي تسعى دولة الاحتلال الاسرائيلي منذ اغتصابها للاراضي الفلسطينية الى تهويد القدس وإعادة هندسة الواقع، عبر تعزيز سيطرتها الكاملة على المدينة عبر إجراءات استيطانية وتهويدية ممنهجة، ووفق تصريحات عبير إسماعيل، مديرة إعلام الأونروا، فإن إغلاق مدارس الوكالة الست في القدس يأتي تنفيذًا لقانون الكنيست الإسرائيلي الذي يُجرد الوكالة من شرعيتها، بدءًا من إخلاء مكتبها في حي الشيخ جراح وصولًا إلى تهديد التعليم لنحو 800 طالب فلسطيني، وهي خطوة خطيرة في سلسلة تشريعات تهدف إلى إلغاء الوجود الفلسطيني المؤسسي، تمهيدًا لفرض واقع ديموغرافي جديد يمحو أي أثر للهوية الفلسطينية في المدينة المقدسة.
قانونيا يعتبر هذا الاجراء انتهاكا صارخا للحصانات الأممية، خاصة وان الأونروا تستند إلى اتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة (1946)، التي تحمي منشآتها وموظفيها من تدخلات الدول الأعضاء، وبموجب القرار 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، تحظى الوكالة بولاية دولية لا يحق لأي دولة، بما فيها إسرائيل، تعديلها أو إلغاءها منفردة، المفارقة تكمن هنا في ان إسرائيل، العضو في الأمم المتحدة، تنتهك التزاماتها القانونية عبر تشريعات محلية تتعارض مع القانون الدولي، مثل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة باحتلال القدس، واتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر تغيير الطابع الديموغرافي للأراضي المحتلة.
بيد ان الأمر لا يقتصر على انتهاك الشرعية الدولية، فهو يشكل أيضاً سابقة خطيرة قد تطال وكالات أممية أخرى، مما يقوّض الثقة في النظام الدولي برمته، خاصة وان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش كان قد حذر من هذا الامر بقوله ان «لا بديل للأونروا»، وإلغاؤها سيفاقم الأزمات الإنسانية ويعرقل السلام.
اما التداعيات الإنسانية المتعلقة بهذه الخطوة التي يقدم عليها الاحتلال فتكمن في وضع تعليم الفلسطينيين تحت التهديد وجعل هويتهم تحت خطر الاندثار، حيث تُدار نحو 700 مدرسة تابعة للأونروا في الشرق الأوسط، منها 6 في القدس الشرقية، وهي تمثل شريان حياة لأجيال فلسطينية تواجه خطر التهجير والتمييز، وان إغلاق هذه المدارس لا يعني فقط حرمان الطلاب من التعليم، بل يساهم في تفكيك البنية الاجتماعية الفلسطينية، التي تعتمد على المؤسسات التعليمية كحاضنات للهوية الوطنية. فوفق تقديرات الأونروا، فإن 54% من ميزانيتها مخصصة للتعليم، مما يجعلها أكبر منظومة تعليمية للاجئين في العالم. وبفقدان هذه الخدمات، سيتحول الفلسطينيون إلى مجتمعات مفتتة، مما يسهل استبدال هويتهم برواية الاحتلال الأحادية.
أثارت الإجراءات الإسرائيلية إدانات واسعة، منها تصريحات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والأردن، التي وصفتها بـ«العقاب الجماعي» و«الاستهداف الممنهج»، لكن هذه الإدانات تبقى حبرًا على ورق في ظل غياب آليات تنفيذية فعّالة، فالدول الغربية، رغم إعلان قلقها، علّقت جزءًا من تمويلها للأونروا تحت ضغط إسرائيل، مما أضعف قدرة الوكالة على الصمود، في المقابل، تبرز دول مثل النرويج وألمانيا كمانحين أساسيين، لكن دعمهم لا يكفي لمواجهة الحملة الإسرائيلية المدعومة من تحالفات إقليمية ودولية، على ان السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل ستتحول كلمات الإدانة إلى فعلٍ يحمي القدس وأهلها، أم ستسقط المدينة شيئًا فشيئًا في غياهب النسيان؟
معطيات الواقع ومؤشرات المستقبل حول انتهاكات الاحتلال الاسرائيلي متعددة الاتجاهات والمستويات تضع إرادة المجتمع الدولي تحت الاختبار، حيث تضع دولة الاحتلال إسرائيلي العالم أمام خيارين: إما القبول بانفرادها بصياغة الواقع في القدس، أو الدفاع عن نظام دولي قائم على القانون وقرارات الشرعية الدولية، فإذا نجحت في إقصاء الأونروا، فستكون قد أرسلت رسالةً خطيرةً بأن القوة الغاشمة المنفلتة تغلب الحق، وهو ما قد يفتح الباب أمام تصفية القضية الفلسطينية برمتها.
ان صراع الأونروا مع إسرائيل هو صراعٌ على الشرعية والسيادة، فبينما تعتمد الأولى على القانون الدولي، تعتمد الثانية على القوة العدوانية الغاشمة لفرض سياسة الأمر الواقع، وهو ما يجعل تدخل المجتمع الدولي ليس ضرورة أخلاقية فحسب، بل شرط لإنقاذ النظام الدولي نفسه من الانهيار أيضاً، خاصة وان الأونروا لا تعد مجرد وكالة إغاثة فقط وانما هي رمزٌ لاستمرار الاعتراف الدولي بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، بما في ذلك حق العودة الذي كفلته القرارات الأممية، وإن إنهاءها يعني تقويض أي أمل بحل عادل، وتحويل الصراع إلى أزمة إنسانية دائمة تهدد استقرار المنطقة بأكملها. ــ الراي